+ -

 نجحت التجربة التونسية واجتازت أولى حواجز منع الانتقال. نجحت بانتخاب رئيس سيخلف رئيسا لم تسعفه صناديق الاقتراع لخلافة نفسه! لقد حدث هذا الأمر في بلد عربي. رئيس في مكتبه يخسر الاقتراع! انتخابات تغير البرلمان، ودستور توافقي بين السلطة والمعارضات. في نفس اللحظات، وعلى بعد ساعة ونصف بالطائرة عن تونس العاصمة، نتابع الأخبار عن انتقال الجزائر إلى عهد “الوثائق غير المصادق عليها”، كعلامة من علامات الإصلاح العام. الفرق بين تونس والجزائر لا يقاس بالمسافة. ولا بوسيلة النقل. الواقع يجيبنا وبموضوعية، من دون مجاملة، عن فارق يقاس بدرجة التحكم في معادلة العلاقة بين قادة ومقُودِين. ودور القيادة في ضبط مسار التطور وسرعة المسار. يوجد أكثر من سبب لتقدير تجربة الرئيس المرزوقي. أولها، أنه غرس بذرة تزعج منظري الفوضى العربية، من حيث تتجاوز مجرد الاقتراح النظري لترسيم العمل الديمقراطي. هي جاءت ببدائل سلمية في عملية البناء السياسي. ثانيا، لدينا من اليوم نموذج، وجود بلد عربي أمازيغي مسلم يصنع التغيير بالتداول. وأن الذي يسلم الحكم تنفيذا لقرار الصندوق يحمل اسم “محمد”. التجربة تزعج أصحاب مقولة إن جميع أنواع الأعراق التي تعيش على الرقعة الجغرافية العربية غير مؤهلين للتربص في مدرسة الحريات العامة واحترام الإنسان. حيث لم تكف أفكار بعض اليساريين ولا يمينيين في الغرب من استخدام وصف “الأعراب” على كل من يستعمل قدمين وساقين ويسكن بحي من أحياء أغادير أو نواكشوط غربا إلى مسقط شرقا، مرورا بقسنطينة أو الإسكندرية. ففي نظر منظري التبعية، نحن أوباش لا تستحق فرصة لممارسة أنواع الديمقراطية. مجرد أتباع تردد مقولات ونظريات غربية عن التطور. أتباع تنتظر صدقة أو عطفا أو “فيزا”، مع بعض الامتيازات والتسهيلات. وتجد أفكارهم صدى محليا من “محافظين مزعومين”، يغمرهم الجمود عند التقليد. ميزتهم العنف مع الجهل. أو من “حداثيين مزعومين” لا يختلف دورهم عن دور “ماسحي الأحذية”، وظيفتهم تلميع صفحات بيضاء بأفكار الفشل. يقترحون بدائل لا ترى الحل إلا عبر التقليد، بحجة أن تقليد القوي يؤدي إلى التحكم بوسائل القوة. وكأن محمد ديب أو محمد أركون أو آسيا جبار عجزوا عن صياغة قالب لتشييد الارتباط مع التقليد. والصحيح أن هؤلاء ونظرا لشخصيتهم، بقي الغرب ينظر إليهم على أنهم نماذج مريبة، لأنها تدافع عن الهوية، ولا تشجع على التقليد الأعمى ولا على التبعية. بل تشجع على التفكير وتقود إلى التأمل في ذواتنا وفي محيطنا، فينا وفي واقعنا. هل نظل رهائن صراع التقليديين من الجهتين؟ هل من اللائق زرع الكراهية اتجاه الهندوس مثلا باسم الدفاع عن واحدية الله، أو تحميل الإسلام والعربية صفة الإرهاب؟ الدين واللغة أدوات بناء مجتمعات ودول. وما تحمله التجربة التونسية هو بعض الجواب لهذه الإشكالية، ولهذه العقدة النفسية المصاحبة للمجتمعات العربية منذ أن بدأت شروط الاستعمار تتوفر وتتجمع، جاعلة من مشروع الغزو مشروعا قابلا للتحقيق. لم تستفد المجتمعات العربية بكل أطيافها العرقية والثقافية من التحولات السابقة. وغلب على النخب العربية طابع توريث تبرير أسباب الفشل في التغيير السلمي. فأصبح التبرير للعجز جزءا محوريا من ثقافة نخبة، بعدما عجزت عن صياغة بديل يكون من خارج التقليد الجامد. لم نستفد من تجارب تركيا أتاتورك ولا أردوغان. ولم نستفد من تجربة اليابان ولا الصين في صياغة نموذج يوفق بين حقائق الهوية وبين طموح الارتقاء، كل حسب أهدافه وحسب مشروعه. خرجنا من استعمار ولم نتخلص من كل عقدنا حول الهوية. انتقال تونس فرصة لاستفاقة من تخدير عمره من عمر الأسباب التي وفرت شروط القابلية للاستعمار. إنها تجربة وفقت في المزج بين المعقول وبين المرغوب فيه[email protected]

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: