مقبرة سيدي إبراهيم.. بعث الحياة في الموتى

38serv

+ -

كانت مقبرة مهجورة أصابها النسيان وأكل عليها الدهر وشرب. يقول البعض إن تاريخ إنشائها يعود إلى الحقبة العثمانية، وشاء القدر أن يُكتب لها ميلاد جديد بمبادرة شخص عاش مأساة جعلته يلتفت إلى القبور التي تملأ الرحب. ها هي مقبرة سيدي إبراهيم تتقدم لملاقاتنا بصفوف أشجار الكاليتوس الواقفة على طرفي الطريق الرابط بين الحدود الجنوبية للجزائر العاصمة وبلدية الأربعاء بولاية البليدة. شيّدت قبل قرنين من الزمن، حين كان الداي حسين يتربع على عرش الجزائر، وجثمت في قلب جنات حدائق ومزارع المتيجة الخضراء، التي سحرت المعمّر الفرنسي بعد أن أخذت بعقول الأتراك.بمجرد أن تدلف قدماك المقبرة الصغيرة ينتابك شعور بلذة خاصة، ويحركك نسيم لطيف ممزوج بدفء كاسل، تتنفسه أشجار الزيتون الناهضة بانتظام فوق تربتها على شكل خيم ساقمة سوداء، وكانت رائحة مزارع العنب والحقول الممتدة على أطرافها الثلاثة تهب للخياشيم فتفعم القلوب حياة.أما طرفها الرابع فيطل على الطريق العام، ورغم أن هذا الأخير يعرف حركة نشيطة كونه يربط ولاية بأخرى، إلا أن ذلك لم يلفت انتباه المارة، بل ما يحز في النفس أكثر هو تطاول بعضهم على حرمتها بفوضى أصوات الموسيقى الصاخبة أثناء مرورهم بجانبها، ورمي فضلاتهم بداخلها، وحتى قارورات الخمر باتت ترمى فيها؛ وراح هذا يقضي حاجاته فيها وآخرون اتخذوا منها وكرا يتسترون فيه لاقتراف أفعالهم الشنيعة.يقول الجد عاشور، فلاح في السبعين من عمره، ابن المنطقة وجميع أفراد عائلته دفنوا في المقبرة: “لقد طال المقبرة تخريب كبير خلال المأساة التي عاشتها المنطقة أثناء العشرية السوداء، ما تسبب في تهديم أضرحة بداخلها، بعد أن استغلتها جماعات إرهابية لتخزين الأسلحة والاختباء بداخلها”. وأعرب محدثنا عن تأسفه الكبير من حالة الدمار التي لحقتها، قائلا: “لولا هدم هذه المعالم لكانت شاهدة على تاريخها القديم”.  زهد وعزم.. فتحقيق إنجازكثرت الأقدام التي داست المقبرة وعمقت جراح القبور التي تأويها، لكن ذلك لم يطح ببذور الأمل لدى بن يوسف لكتابة شهادة ميلاد جديدة للمقبرة. كان علي بن يوسف منشغلا بإعادة تهيئة القبور التي طالها الإهمال والتسيب، حين دخلنا المقبرة؛ يبرز شهود القبور ويزيل الأشواك عنها. ملامح التعب بادية على محياه إلا أن عزيمة أقوى طغت على وجه ابن حي باش جراح الشعبي بشرق الجزائر العاصمة. استقبلنا بعبارات شكر وعرفان لخالقه، بعد وفائه لوعد قطعه على نفسه قبل 4 أشهر.جلسنا نتفيأ تحت ظلال أشجار الزيتون ومشاعرنا تتحرك لمشاهدة المقبرة تحيا وتُبعث من جديد، فزاد شغفنا لاكتشاف المزيد عن شخصية بن يوسف وسر علاقته بتلك المقبرة الصغيرة، التي يخيل لمن يراها للوهلة الأولى أنها تمتد على مساحة أوسع. استرسل صاحب المبادرة الطيبة يسرد لنا جانبا من مأساة عاشها مؤخرا، بصوت هادئ وعبارات توحي بأن صاحبها لم تعد تهمه كثيرا مشاغل الدنيا: “قبل أربعة أشهر فقدت أحد أعز الناس إلي؛ هي مدفونة تحت هذا التراب”. بدا محدثنا متأثر جدا لوفاة زوجته بعد صراع طويل مع المرض، لكن إيمانه القوي بقضاء اللّه وقدره صوّر له معنى الحياة. أطلق تنهيدة طويلة ثم واصل “منذ ذلك الحين اعتدت على زيارة قبر زوجتي كل يوم، أجلس عنده أتلو آيات قرآنية وأردد أدعية”. كان بن يوسف أثناء مكوثه في المقبرة يتضايق من صخب موسيقى السيارات العابرة بجانبها. واصل صاحب الـ42 سنة قائلا “لفت انتباهي كثرة الأوساخ الملقاة بداخلها، وكنت حريصا على تنظيف محيط القبر، حتى بادرتني فكرة إعادة تهيئتها، وقصدت أحد البنائين للشروع في العمل، فلم يتوان في مد يد المساعدة..”.  انطلقت أشغال تشييد جدار جديد حول المقبرة، وقاموا ببناء مدخل يليق بحرمتها، ما جعلها تبرز من على الطريق، أما “اليوم فقد أصبح المارة يخفضون من صوت مذياعهم، بمجرد قراءتهم “مقبرة” فوق مدخلها الرئيسي”. خلال جولتنا الاستطلاعية لاحظنا غياب ممثلي البلدية، واستفسرنا الأمر من بن يوسف، فرد قائلا: “لم نطلب شيئا من البلدية سوى أن تسخّر لنا يدا عاملة تساعدنا في تنظيف محيط المقبرة، ورغم موافقتهم على الأمر إلا أنهم لم يرسلوا لنا أي عامل”. وعن مصدر تمويل المشروع قال: “هناك شخص تكفل بجميع مصاريف الإنجاز رفض الكشف عن هويته”. ومن خلال دردشة مع المتطوعين الذين كانوا يشاركون في عملية إعادة تهيئة المقبرة، اكتشفنا أن الشخص الذي أشرف على تمويل المشروع هو بن يوسف نفسه، الذي اقتطع مبلغا ماليا من راتبه الشهري وجّهه لإعادة بعث دفء المقبرة المهجورة، محققا بذلك إنجازا جعلها تكتسي ثوبا جديدا، أحياها بعد موتها، أطلق عليه اسم “أبواب الجنة”.وأخيرا وصل اليوم الذي انتظره بن يوسف طويلا. كان يوما مميزا بالنسبة إليه، بعد أن وفّى بوعده الذي قطعه على نفسه قبل 4 أشهر، ونظم مأدبة غذاء على شرف اختتام عمله الخيري، كصدقة جارية وعربون وفاء وإخلاص وحب لزوجته، التي أقل ما قال عنها إنها كانت “طيبة ومن أهل الخير، وها هو خير اللّه عليها يتواصل بعد أن فاضت روحها إلى بارئها”، في إشارة منه إلى أن حادثة فقدان زوجته كانت بمثابة المحرك الأساسي في المبادرة الطيبة التي قام بها رفقة متطوعين أبوا إلا أن يزهدوا في الحياة ويكرسوا كل وقتهم في التحضير لآخرتهم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات