اقتباس “ألبير كامي” بروح استعمارية جديدة

38serv

+ -

 عاد المخرج الفرنسي “دايفيد أولهوفن”، مؤخرا، لقصة “الضيف”، وقدمها في فيلم “بعيدا عن الرجال” الذي يعرض في قاعات السينما منذ جانفي الفارط. وكتب كامي قصته سنة 1954، ونشرت ضمن المجموعة القصصية الشهيرة “المنفى والملكوت” (1957).                       تدور أحداث قصة كامي “الضيف” في عز فصل الشتاء، قُبيل اندلاع حرب التحرير. وبقي الفيلم محتفظا بهذا الارتباط، حيث يظهر منذ البدء مدرس إسباني يدعى “دارو” (تمثيل الأمريكي فيغو مورتنسن)، وهو يترقب صعود رجلين إلى قمة الجبل، أحدهما على صهوة جواده، بينما يسير الثاني على قدميه مكبل اليدين. يدرك من قرأ القصة أن أحداث الفيلم الذي جاء على شكل فيلم “ويسترن” من تلك التي أخرجها “جون فورد” المهوس بالأمكنة الشاسعة، لا تدور في بلاد القبائل مثلما أراده كامي، بل في جبال الأطلس بالمملكة المغربية، علما أن علاقة كامي بالقبائل امتازت بالمتانة، بعد أن أجرى تحقيقا صحفيا لصالح جريدة “الجزائر الجمهورية” لسان حال الحزب الشيوعي الجزائري، أبرز من خلاله بؤس ومعاناة الأهالي. يقترب الرجلان شيئا فشيا من مشارف المدرسة الواقعة على سفح الجبل، فيتعرف “دارو” على الدركي “بالدوتشي”. وبمجرد وصولهما إلى المدرسة، يقوم “بالدوتشي” بتسليم العربي لدارو، ويأمره بنقله إلى مركز الشرطة بقرية “تيغيت”. يدرك “دارو” أن العربي، ويدعى محمد، (تمثيل الفرانكو- جزائري رضا كاتب) متهم بقتل أحد أبناء عمومته. يبدي المدرس الإسباني في البداية رفضا قاطعا لفكرة نقل محمد لمركز الشرطة، فروحه الإنسانية منعته من “نقل رجل إلى موته الأكيد”. لكن بمجرد وصول أقارب الضحية لمشارف المدرسة، تحدوهم رغبة الثأر، يوافق على التكفل بالمهمة، وينطلق رفقة السجين نحو تيغيت”.ينتاب المشاهد خلال اللقطات الأولى من الفيلم شعور بالنفور من محمد، بعد أن قدمته كاميرا “أولهوفن” في صورة الشخص الخاضع والراضي بوضعية التابع للمستعمر، الذي لا يفكر حتى في إيجاد طريقة للتحرر والخلاص. كان مثل من يسير نحو الموت برجليه. وجاءت تسمية العربي “محمد” واضحة في الفيلم على عكس القصة، إذ لم يعطه كامي أي اسم، ونعته بـ”العربي” فقط، وذلك كان خياره منذ روايته “الغريب”، إذ لا نعرف اسما للعربي الذي قتله “ميرسو”. بيد أن الفيلم ظل محتفظا بروح القصة، خاصة ما تعلق بتبعية العربي (محمد) للمدرس الإسباني خلال طريقهما إلى مركز الشرطة في “تيغيت”، حيث يظهر “دارو” في صورة الرجل المُدبر والمفكر، والمقدام، ويجسد روحا خلاقة، بينما ينكمش محمد على نفسه ويكتفي بإعطاء رأيه في مسائل تتعلق بالأكل لا غير. وكأن الفيلم يسير وفق روح قصيدة “رويارد كيبلينغ” الشهيرة “حملُ الرجل الأبيض” التي كتبها سنة 1899 للتغني بالروح الكولونيالية. وتتجلى هذه الروح المتفوقة من خلال إدراك “دارو” أن من واجبه الأخلاقي والحضاري، وحتى الإنساني، التكفل بالعربي، وحمايته من تخلف وثأر بني جلدته.  “أولهوفن” يعطي الوجود لعربيّ كاميمع توغل الرجلين في جبال الأطلس، يحدث تقارب بينهما. لكن التماهي لا يتحقق بشكل كامل، لأن محمد يظل خانعا وتابعا وعاجزا عن الرغبة في إبراز أي نية للتحرر والانعتاق. وحتى لما يقرر “دارو” مساعدته على الفرار، يرفض الاقتراح ويصر على التوجه للعدالة الفرنسية من أجل محاكمته. ولا يحدث تحول في شخصية محمد العربي، إلا بعد أن تفطن “دارو” أنه يريد تسليم نفسه للفرنسيين، حتى يتخلى أبناء عمومته عن فكرة الثأر، ويموت كي يحيا الآخرون. هذا الخيار يجعل “دارو” ينظر لمحمد ببعض العطف والاحترام، فيتخلى عن نظرة اللامبالاة التي كانت تميزه خلال بداية الفيلم. لكن يجب التنبيه إلى أن “العربي” في قصة كامي ظل يراوح مكانه كشخصية عادية ودون أدنى قيم إلى النهاية، بينما فضل “أولهوفن” الذي كتب سيناريو الفيلم، الخروج عن هذا السياق. فبعد إعطاء اسم للعربي، أضاف له ميزات إنسانية، نقلته من وضعية الخاضع والتابع إلى شخص مؤثر، ولو ضمن علاقته بالإسباني، أي أنه يفكر في مصيره، رغم إصراره على تسليم نفسه للغزاة والخضوع لقانونهم.يدرك المشاهد أن “دارو” بدوره كان يعاني من قسوة الوضعية الكولونيالية، فالفرنسيون رفضوا تقديره واحترامه بسبب انتمائه للأقلية الإسبانية، فيردد قائلا “الفرنسيون يعتبرونني عربيا، والعرب يعتقدون أنني فرنسي”، علما أن “دارو” في قصة ألبير كامي ليس إسبانيا بل فرنسيا، وهذا خروج آخر عن روح القصة. ولا يحدث التماهي النهائي في الفيلم بين الرجلين، إلا بعد ارتكاب “دارو” جريمة مماثلة، بعد أن قتل أحد الرجال الذين كانوا يتبعون محمد ويريدون قتله. من هنا يكتشف “دارو” أن ماضيه العنيف كان يتعقبه، ولم يتركه يعيش تلك الحياة الهادئة التي كان يتمناها حينما قرر الانتقال للاستقرار في قرية نائية “بعيدا عن الرجال”. هذا العنف الذي تركه “دارو” وراءه واستعاده رغما عنه، أصبح بمثابة وسيلة للمجاهدين للتخلص من الوضعية الاستعمارية والتحرر منها، وهو العنف نفسه الذي يلجأ إليه أحد الضباط الفرنسيين حينما قتل بكل برودة دم ثوريين جزائريين بعد أن أُلقي عليهم القبض.            فقَدَ “دارو” الحياة الهادئة التي كان يعيشها بعيدا عن الرجال، لأنه لم يشعر بقدوم الاضطراب في حياته، تماما مثلما لم تشعر فرنسا بقدوم الثورة الجزائرية في نوفمبر 1954. لقد فات الأوان على “دارو” مثلما فات على فرنسا الاستعمارية. ويقول أحد المجاهدين لدارو: “فات أوان تدريس اللغة الفرنسية، فالزمن الآن هو زمن الثورة”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: