38serv

+ -

قال الدكتور محمد الهادي حارش، أستاذ التاريخ والحضارات القديمة بجامعة الجزائر 2، إن القراءة الأولية لبرنامج “ليسانس التاريخ” الجديد الذي اعتمدته وزارة التعليم العالي، لم يحظ بالإجماع في تقدير جلّ الأساتذة بمختلف درجاتهم العلمية. وأوضح الدكتور حارش في حوار مع “الخبر”، أن البرنامج ذاته لم يرق حتى إلى الصراع الإيديولوجي؛ لأن الصراع والتنافس مهما كانا سلبيين فهما يحملان “روح التنافس الراقية”. وأضاف أن هذا البرنامج طغت عليه روح “الأنا”  لا أكثر، دون التفكير في محاولة أقلمته مع التطورات الجديدة للمجتمع، وتحسين محتواها، حتى تستجيب لحاجيات التكوين.يبدو أن برنامج “ليسانس تاريخ” الذي اعتمدته الوزارة مؤخرا، أثار جدلا ونقاشا في أوساط الأساتذة، ما هي التحفظات التي أبديتموها حوله؟ كنا نعتقد أن عهد الإقصاء والأنانية قد انتهيا، وأن تفكيرنا كجامعيين قد ارتقى، وأن مصلحة تكوين أجيال تتمتع بالكفاءة تؤثر في محيطها وتتفاعل مع غيرها، هو هدفنا جميعا، بعد عقود من الصراع الإيديولوجي العقيم. لكن يبدو من قراءة أولية لبرنامج “ليسانس التاريخ” الذي نزل علينا كالصاعقة في نهاية هذه السنة الجامعية (2015-2016)، في تقدير جلّ الأساتذة بمختلف درجاتهم العلمية، أنه لم يرق حتى إلى الصراع الإيديولوجي، لأن الصراع والتنافس مهما كانا سلبيين فهما يحملان “روح التنافس الراقية”. لكن هذا البرنامج طغت عليه روح “الأنا”، كما يقول الفلاسفة، لا أكثر، دون التفكير في محاولة أقلمة هذا البرنامج مع التطورات الجديدة للمجتمع وتحسين محتواها، حتى تستجيب لحاجيات التكوين، وهو لاشك أحد أهداف المراجعة الدورية للبرامج عند الأمم، وهي مراجعة تتولاها كوادر وإطارات الأمة، المشهود لها بالتجربة والكفاءة، وتتحمّل مسؤوليتها أمام باقي الكوادر، وأمام الأجيال.وهل قامت اللجنة التي أعدت البرنامج بمشاورتكم كأساتذة؟ ذلك أمر لا نعيره الاهتمام، مادام يكفي أن نطلب بعض الأساتذة من بعض الجامعات، دون غيرها للاجتماع على فنجان شاي أو قهوة، ويتم اقتراح وحدات دون نظر، ويعتمد كبرنامج وطني، يهلل له مثلما هللنا قبل عقد للبرامج الجهوية، واعتبرناها آنذاك رائدة، فقط لأن البلد الفلاني أو العلاني قد طبقها، والآن اتضح أن تلك البرامج لا تستجيب لحاجتنا، وأنها خلقت فوضى في التكوين، يجب مراجعتها. كما يبدو أن البرنامج المقترح علينا في نهاية هذه السنة قد خطى بنا خطوات عملاقة إلى الخلف، وإلا كيف نفسر الكثير من نقاط الضعف التي نلاحظها على برنامج التاريخ على مستوى الليسانس (ل.م.د)، ونحن في انتظار برنامج الماستر الذي نتوقع أن يكون شبيه أبيه، مادامت اللجنة مطالبة بوضع ثلاثة أو أربعة برامج: قديم، وسيط، حديث ومعاصر أو قديم، وسيط، حديث، معاصر، وربما تبدع بوضع تخصصات أخرى، مع ذلك نكتفي الآن بتقديم بعض الملاحظات على البرنامج الذي بين أيدينا.معنى هذا أن تخصص التاريخ القديم تعرض للتهميش، وحتى أساتذته؟ نعم، فالبرنامج وضع من مجموعة من الأساتذة منسجمة التكوين قد يكونون كلهم أو على الأقل جلهم من تخصص الحديث والمعاصر، وبالتالي اعتبروا أن التاريخ هو التاريخ الحديث والمعاصر، أما باقي المراحل فلا جدوى من دراستها أو البحث فيها. ففي الوقت الذي ركزت فيه ديباجة الدستور الجديد على أهمية التاريخ في انصهار الأمة وتلاحمها، جاء علماؤنا هؤلاء واختصروا التاريخ في “التاريخ الحديث والمعاصر”، وإلا كيف نفسر وجود 18 مقياسا (في التاريخ الحديث والمعاصر) 13 مقياسا منها إجبارية و5 مقاييس اختيارية، بينما نجد مقياسا واحدا فقط خاصا بالتاريخ وحضارة بلدان المغرب في العصور القديمة، ومقياسا واحدا خاصا بعصور ما قبل التاريخ العام كمقياس اختياري سداسي، وربما كان الأمر أفضل بالنسبة للتاريخ الإسلامي والوسيط بأربع وحدات إجبارية ووحدة اختيارية، هي أوروبا العصور الوسطى. هذه الملاحظة الأولى، تجعلنا نتساءل: هل الهدف تكوين طلبة في التاريخ العام، أم التاريخ الحديث والمعاصر؟ وهل يعقل أن يتخرج الطالب حاملا لشهادة الليسانس ولا يعرف شيئا عن تاريخ الإغريق ولا عن تاريخ الرومان والمؤسسات الرومانية، والشيء نفسه يقال عن تاريخ مصر الفرعونية ووادي الرافدين، ولا عن بلاد فارس ولا عن الشرق الأقصى (حضارة الصين والهند)، والشيء نفسه يقال عن الحركات المذهبية في العالم الإسلامي؟ فهل يعقل أن يتخرج الطالب بليسانس التاريخ، ولا يعرف شيئا عن نشوء وتطور هذه الحركات، ونحن نعيش ما نعيش؟ وكذا العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى وغيرها من المواد، لكن قريحة الزملاء اكتفت بمحاولة حشو فكر الطلبة بالتاريخ الحديث والمعاصر، وكفاهم ذلك شر التفكير والاجتهاد لإعطاء تكوين متوازن للطالب.في رأيكم، كيف يمكن تدارك هذه النقائص؟ تسمية المقاييس يَنِمُّ عن نقص تجربة هؤلاء الزملاء واضعي البرنامج، أو عن محدودية معارفهم، أو عدم إعطاء الأمر الأهمية التي يستحقها. وفي كل الحالات، هو نقص يجب تداركه.. لماذا الجمع بين صدر الإسلام والدولة الأموية وعنوان “صدر الإسلام” يشمل الدولة الأموية، مادام صدر الإسلام يمتد زمنيا من السنة الأولى للهجرة إلى سنة 132هـ، والتاريخ الأخير هو سقوط الخلافة الأموية وقيام الدولة العباسية... عندما نقول “المغرب الإسلامي”، يعني بلاد المغرب والأندلس، والزملاء وضعوا عنوان المقياس “تاريخ وحضارة المغرب الإسلامي والأندلس”، وكأن الأندلس ليست جزءًا من المغرب الإسلامي... وضع الزملاء مقياس “النهضة الأوروبية” عوض أوروبا الحديثة، ولا أدري إن كانوا على دراية أن ذلك يلغي من الدراسة موضوعين هامين هما: الكشوفات الجغرافية وحركة الإصلاح الديني.مقياس “الدولة العثمانية والمشرق العربي 1516-1914”، ثم “الدولة العثمانية والمشرق العربي 1914- 1516”، حيث يدرس الطالب المقياس في السداسي الخامس بداية من سنة 1516 إلى سنة 1914، ثم يعود في السداسي السادس ويدرس المقياس نفسه بالمقلوب من سنة 1914 إلى سنة 1516، وهنا قمة العبث، ونتحدث عن اللجنة الوطنية وحضور الخبراء ورؤساء الميادين ورؤساء الشعب، الذين لا نعرف جلهم إلا على الورق، وهو ما حدث للمشرق الإسلامي القرن 8-15، وكذا حركات التحرر في إفريقيا وآسيا، حيث وضع قبل، لكن هذا الأمر يمكن تجاوزه باعتباره سهوا... ولكن مع ذلك، لماذا التوقف عند سنة 1914، وهي اندلاع الحرب العالمية الأولى، في وقت كان يمكن التوقف عند سنة 1916 تاريخ انطلاق الثورة العربية، أو سنة 1920 عندما تخلت الدولة العثمانية عن الأقاليم العربية في المشرق والمغرب في دستورها، ولماذا لم نكتف بتسمية المقياس “المشرق العربي الحديث”، خاصة أن الدولة العثمانية، خصص لها مقياس مستقل في السداسي الثالث. كما أن وحدة “إفريقيا جنوب الصحراء” لا إطار زمني لها ولا مكاني، طبعا من يدرس إفريقيا جنوب الصحراء قبل القرن 8 الميلادي غير الذي يدرسها ما بين القرن 8 و16 الميلادي، فالأول تخصصه قديم والثاني تخصصه وسيط إسلامي، بينما تتميز فترة ما بين 16-19 بحركة التوسع الاستعماري. أما القرنين 19-20، فهي حركات التحرر، فأي فترة يقصدها واضع البرنامج، وهل يقصد أيضا إفريقيا الشرقية (السودان الشرقي)، أم إفريقيا الغربية (السودان الغربي)؟ وهناك اختلاف واضح في تاريخ المنطقتين يعرفه أهل الاختصاص.وضع مقياس تاريخ الثورة الجزائرية 1954-1962 في السّداسي الخامس، على أن يعود الطالب في السداسي السادس لدراسة مقياس “تاريخ الحركة الوطنية 1919-1954”، وهو ما يعرف بوضع العربة أمام الثيران، يدرس الطالب الثورة قبل معرفة الحركة الوطنية التي أدت إلى قيام الثورة. ونتساءل: أليس بمقدورنا أن نضع برامج متوازنة يكون فيها تكافؤ بين التخصصات التاريخية المختلفة، دون إقصاء، ونعطي تكوينا علميا لطلبتنا، يقيهم من مختلف النقائص، لكن كما يقول المثل: فاقد الشيء لا يعطيه... إذا كان هذا مستوانا كأساتذة، فلا ذنب للطلبة، الذين يدفعون ثمن عجزنا.كان بالإمكان وبرامج “ل.م.د” تشمل أربعة محاور موزعة في مواد أساسية ومنهجية، ثم استكشافية وأفقية، أن نضع أربعة مقاييس أساسية، ترتبط بتاريخ الجزائر عبر العصور، لنأخذ مثلا لذلك السداسي الثالث، كأن نضع تاريخ بلدان المغرب في عصور ما قبل التاريخ (التاريخ القديم)، صدر الإسلام (1 هـ -132هـ)، تاريخ الجزائر الحديث، الحركة الوطنية. بينما نضع في السداسي الخامس، تاريخ وحضارة المغرب القديم، وتاريخ المغرب الإسلامي، وتاريخ المغرب الحديث، وتاريخ الثورة التحريرية. هذا بالنسبة لوحدات التعليم الأساسية، وهو ما يتم في السداسي الرابع والسادس، وتوزع وحدات التعليم الاستكشافية بالطريقة نفسها، على أن تخصص للمقاييس التي تلي تاريخ منطقتنا المغاربية والعربية. أما وحدات التعليم الأفقية، فنضع فيها وحدات اختيارية من مختلف التخصصات، وعلى الطالب أن يختار منها مقياسين حسب رغبته وميوله للتخصص في الماستر، لا كما وضعت المواد الاختيارية التي يختار فيها الطالب وحدتين، لكن داخل التخصص الحديث والمعاصر فقط.ولماذا لم يتم اعتماد مثل هذا التصور؟ هذا الأمر ليس مستحيلا، وبإمكاننا أن نوزع مختلف المقاييس على السداسيات الأربعة ومحاور برامج “ل.م.د” (وحدات أساسية، منهجية، استكشافية وأفقية)، مع وضع محتوى كل مقياس يستجيب لحاجات تكوين الطالب في الليسانس، مع مراعاة احتياجاته على مستوى الماستر في مختلف التخصصات (التاريخ القديم، والتاريخ الوسيط، والتاريخ الحديث والمعاصر) وكذا الدكتوراه الطور الثالث، التي يدقق في تخصصاتها أكثر.أما البرنامج المقدم الآن للتطبيق، فهو مختل، لا يعبر إطلاقا عن ليسانس “التاريخ العام”، فهو ليسانس “التاريخ الحديث والمعاصر” لا غير، بتوابل علم النفس وعلم الاجتماع والجغرافيا واللغات، مملح بوحدة التاريخ القديم وأخريان في التاريخ الإسلامي، الأمر الذي يجعلنا نتوقع اضطرابا كبيرا، خاصة في الجامعات الكبرى التي يجد فيها عشرات الأساتذة أنفسهم في بطالة... بينما يجد رؤساء الأقسام أنفسهم في رحلة البحث عن أساتذة من خارج أقسام التاريخ، لتدريس وحدات قرّرت ضمن البرنامج الجديد، ولا صلة لها بتخصص التاريخ. تلك إذن هي أهم الملاحظات التي ارتأينا الإشارة إليها، وهذا تبرئة لذمتنا من هذا البرنامج، الذي نرى أنه لم تول له العناية الكافية، حتى يكون بمقدوره تكوين أجيال مؤمنة بتاريخها، ومؤثرة في وسطها ومتفاعلة مع غيرها.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات