+ -

في الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينَك فلأُبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: “ما لك يا عمرو؟” قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: “تشترط بماذا؟”، قلت: أن يُغفر لي، قال: “أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله”؟.

ربنا سبحانه فضلا منه ومِنَّة ورحمة بخلقه، شرع لهم أعمالا وأقوالا يتقرّبون بها إليه، وفاضل سبحانه بين العبادات التي شرعها، فجعل تحقيق التوحيد أجلَّ عمل يتقرب به العبد لمولاه، بل جعله شرطا لقَبول أي عمل، ونوَّع ربنا سبحانه الطاعات ليكون المكلف في عبادة مستمرة، وليُعظَّمَ الخالق في كل حين، فما أن ينتهي موسم إلا ويعقُبُه موسم آخر، يُظهر العباد فيه توحيدهم لخالقهم ويتذللون بين يديه، فشرع سبحانه أطول عبادة بدنية متصلة يتلبَّسون بها أياما لإظهار إفراد الله بالعبادة وحده، وأن عبادة ما سواه باطلة، فمن أداها كما أمره الله عادت صحائف أعماله بلا أدران ولا خطايا: “من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”.

ويتعرض الحجيج في هذه العبادة لنفحات ربهم في مكان عظيم، وفي يوم هو أكثر أيام تعتق فيه الرقاب من النار: “ما من يوم أكثر من يُعتِقَ الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة”.

إن الحج ركن عامر بالمنافع والعبر، فقد أمر سبحانه فعله في أطهر بقعة وأشرفها، ليجتمع شرف العمل مع شرف المكان، فخليل الرحمن إبراهيم بنى فيها بيت الله وأسسه على التقوى والإخلاص: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم}، وأبقى الله ما بناه إبراهيم ليرى العباد أنه لا يبقى من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم، ويستفتح الحجيج عبادتهم بإظهار الوحدانية لله وحده، والبراءة من عبادة ما سواه، مردّدين جماعات ووحدانا: “لبّيك اللهم لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك”.

وفي التلبس بالإحرام دعوة للنفس إلى عصيان الهوى؛ فلا لبس مخيط، ولا مس طيب، ولا خِطبة نكاح، وسواد الحجر الأسود تذكير للعباد بشؤم المعصية، وعظم أثرها على القلب، عند الترمذي يقول المعصوم: “نزل الحجر الأسود وهو أشدّ بياضا من اللبن، فسوّدته خطايا بني آدم”.

وفي أداء هذا الركن العظيم انتظام عبادة بعد أخرى، فعبادة بالليل كالمبيت بمزدلفة، وأخرى بالنهار كالوقوف بعرفة، وعبادة باللسان بالتكبير والتلبية، وأخرى بالجوارح كالرمي والطواف، وفي هذا إيماء إلى أن حياة المسلم كلها لله. ومما يدل كذلك على فضل الحج ما يكون فيه من إقامة لذكر الله والتقرب إليه بالهدي والذبائح، قال صلى الله عليه وسلم: “أفضل الحج: العج والثج”، الحج: رفع الصوت بالذكر، والثج: الدم والذبائح.

ومن فضائل الحج تذكر ذلك اليوم العظيم الذي وقف فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم مودّعا، فخطب في الناس خطبته العصماء التي حضرها أكثر من مائة وعشرين ألف شخص: “أيها الناس: أيّ يوم هذا”؟ قالوا: يوم حرام، قال: “فأي بلد هذا”؟ قالوا: بلد حرام، قال: “فأي شهر هذا”؟ قالوا: شهر حرام، قال: “فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا”، فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: “اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت”.

تالله إن النفوس لتَتُوق، وإن القلوب لتشتاق إلى تلك البقاع الطيّبة، وتلك المشاهد العظيمة التي يُرى فيه بيت الله العتيق، ذلكم البيت الذي نؤمه كل يوم وليلة خمس مرات، وتتصل به قلوبنا عند الصلوات، وتحن إليه أفئدة المؤمنين والمؤمنات.

* إمام وأستاذ بجامعة العلوم الإسلامية – الجزائر1