38serv

+ -

هناك نظريةٌ في التاريخ وعلم الاجتماع للمفكر أرنولد توينبي تدعى نظرية "التحدي والاستجابة"، والتي يمكن تلخيصها بأن فرداً أو كياناً ما إذا تعرّض لصدمة ما، فإنه يفقد توازنه لفترة ما، ثم ما يلبث أن يستجيب لهذا التحدي إما سلباً بالابتعاد والخضوع، أو إيجاباً بمحاولة التغلب على المشكلة وابتكار الحل المناسب لها.

في الحقيقة تابعتُ خلال الأسابيع القليلة المنصرمة سير موسم الحج لهذا العام 1444هـ والانتظام الدقيق الذي اتسمت به مجرياته وأحداثه، وتوفقتُ عند بعض الإحصاءات التي نشرتها وكالة الأنباء السعودية، ومنها أن العدد الإجمالي للحجاج بلغ  (1845045) حاجاً، وحاولت حينها تخيّل حجم التحدي الذي تواجهه حكومة المملكة في إدارة هذه الجموع البشرية الضخمة المتواجدة في بقعة جغرافية صغيرة لا تتجاوز بضع كيلومترات مربّعة، وما يستلزمه هذا من توفير الدعم اللوجستي لهذه الحشود من مأكل ومشرب ومسكن ورعاية صحية وخطاب إعلامي ومعلوماتي، واستحضرتُ حينها نظرية "التحدي والاستجابة"، إلا أنني وجدتُ أن ما يحدث في الحج لا يمكن إخضاعه لهذه النظرية، بل هو في الواقع يسيرُ عكسها تماماً بل ويتجاوزها.

لقد استطاعت القيادةُ في المملكة العربية السعودية فعلاً كسر النظرية الآنف ذكرها لدى تعاملها مع ملف الحج، فهي لم تعد تنتظر نشوء التحديات لتستجيب لها وتجد الحلول، بل أصبحت تستشرف تلك التحديات قبل ظهورها، وتبتكر من أجلها الحلول الناجحة والحاسمة، مُوظِّفة في سبيل ذلك موارد مالية وبشرية وعلمية وإعلامية ضخمة ورفيعة المستوى والتأهيل، وتمكنت من استباق التحدي والتغلب عليه، فتابع العالمُ مشهداً فريداً من مشاهد التجمع الإنساني وهو يُدار باقتدار منقطع النظير. 

ومن الإحصائيات التي لفتت نظري أيضاً كان عدد الحجاج الذين تلقوا خدمات صحية خلال الموسم، حيث بلغ أكثر من 400 ألف حاج، فيما تم إجراء أكثر من (50) عملية قلب مفتوح، وما يفوق (800) عملية قسطرة قلبية وحوالي (1600) جلسة غسيل كلوي، وهذه الأرقام مع ما تثيره في قلوبنا من تعاطف ومؤازرة تجاه أشقائنا من الحجاج المرضى، إلا أنها تشعرنا بالفخر بقدرة الجهات المختصة في المملكة على التعامل مع هذه الحالات الحرجة صحياً وتقديم أرقى الخدمات الطبية لها والتخفيف من معاناتها، سائلين المولى عز وجل لأصحابها الشفاء العاجل.

وكانت التقنية بدورها إحدى أهم الأدوات التي وظّفتها حكومة المملكة من أجل إنجاح موسم الحج، وكم أثارت الجودةُ والسهولةُ اللتان أفرزهما استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي من إعجاب الألوف المؤلفة من الحجيج، وتلاشت الكثير من العقبات التي كانت تواجههم في الماضي وخاصة كبار السن وذوي الهمم منهم، وأصبح الحجُ بحقٍ تجربةً خاليةً من المشقة والتعقيد، كما اتسع المجال للحجاج للتفرغ لأداء عباداتهم ومناسكهم في أجواء عامرة بالسكينة والاطمئنان.

 

الحج مسؤولية إنسانية

 

إن نجاح موسم الحج ليس إنجازاً سعودياً فحسب، ولكنه في الحقيقة انجاز للإنسانية جمعاء أيضاً، فقد أثبتت الدولةُ المضيفةُ )المملكة) قدرتها على إدارة هذا المشهد بحشوده الضخمة في زمان ومكان محدّدين في بيئة خالية تماماً من التصادم أو الإرهاب أو الاختلال في تلبية الحاجات الضرورية والكمالية لهذه الحشود، فيما أثبتت الإنسانيةُ أنها لا تزال قادرة على فرض منظومتها الأخلاقية والقيمية لينصهر الجميع في بوتقة واحدة يؤدون شعائرهم في صعيد واحد، متناسين تنوّع أعراقهم واختلاف ألوانهم وألسنتهم وانتماءاتهم.

 

الحجُ دورة مستمرة

 

لم يكد موسم الحج لعام 1444هـ ينقضي، بل ولا يزال بعض الحجاج يحزمون أمتعة العودة إلى ديارهم وأوطانهم، وإذا بوزارة الحج والعمرة تُذهل العالم بإعلانها أنها شرعت في إعداد الترتيبات المبكّرة لحج العام القادم 1445هـ، قاصدةً من هذه الخطوة المبكرة حث الدول الشقيقة والصديقة على أن تستقلّ معها قاطرة الاستعداد لموسم الحج القادم، مؤكدة أن الدولة التي ستساهم في هذا الاستعداد المبكر سيكون حظها أوفر في اختيار الأماكن المناسبة في المشاعر المقدسة، وهو الأمر الذي سينعكس إيجابياً على حجاجها وراحتهم وخدمتهم بأرقى المعايير.

 

هدية "مبادرة طريق مكة"

 

تُعرف مبادرة "طريق مكة  بأنها آلية جديدة ابتكرتها المملكة من أجل تحقيق أعلى مستوى من الراحة لضيوفها من حجاج الخارج، وتتمثل في عقد الاتفاقيات الثنائية اللازمة من أجل اختصار الجهد والوقت على الحجاج خلال تنقلهم وسفرهم.

وإن مما يُسعدني في هذا المقام/ أن أعلن أن المملكة وشقيقتها الجزائر قد شرعتا منذ فترة في دراسة مشروع انضمام الجزائر إلى مبادرة "طريق مكة".

هذه المبادرة هي عبارة عن مشروع غير مسبوق من أجل ضمان تقديم أرقى الخدمات للحاج الجزائري وتسهيل رحلته إلى البقاع المقدسة دون أعباء أو معوقات.

في الحقيقة، كلي ثقةٌ أن هذا الملف تحديداً سيحظى باهتمام كبير من الجهات الجزائرية المختصة، وذلك انطلاقاً من حرص الحكومة الجزائرية الشقيقة وجهودها المعروفة في رعاية الحجاج الجزائريين وتهيئة المناخ الأفضل لهم لأداء مناسكهم وشعائرهم.

 

وتهنئة واجبة

 

إنني إذ أرفع في الختام باسمي ونيابة عن زملائي أعضاء بعثة المملكة لدى الجزائر، أسمى آيات التهاني لمقام سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وسمو سيدي ولي عهده ورئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز – يحفظهما الله - على نجاح موسم الحج بمستوى مشرف كالعادة، كما أتوجّه أيضاً بالتهنئة لصاحب الفخامة رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، السيد عبد المجيد تبون، ولحكومته الموقرة، على بدء عودة الحجاج الجزائريين إلى بلادهم آمنين مطمئنين حامدين شاكرين، وإني لأسأل المولى عز وجل أن يجعل حجهم حجاً مبروراً وأن يجعل سعيهم مشكوراً.

* سفير خادم الحرمين الشريفين لدى الجزائر