+ -

إن الشريعة التي جاءت عدل كلها ورحمة كلها لا يمكن بحال أن تكون أحكامها مؤسسة على غير العدل والمساواة وتوازن الحقوق والواجبات، فما من أصل من أصولها إلا والعدل مرجعه، وما من فرع من فروعها إلا وهو آخذ منه بطرف، والعدل أم مقاصدها ومصدر تفردها وتميزها فلا يعطى بها حق لغير مستحقه ولا يؤخذ من يد صاحبه إلا بحقه.

وقد عمل الفقهاء على رعاية هذه المعاني السامية فيما استنبطوه من أحكام من عمومات نصوصها ومبادئها وكليات مقاصدها.

فقد ذكر ابن شاس في باب الزكاة أن الوالي إذا كان يعدل في الأخذ والصرف لم يسع المالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناض ولا في غير ذلك، بل يرفع زكاة الناض إلى الإمام، وأما زكاة الحرث والماشية فيبعث الإمام في ذلك، وذكر الماوردي أن العامل عليها إذا كان جائرا في أخذها عادلا في قسمتها جاز كتمها وأجزأ دفعها إليه، وإذا كان عادلا في أخذها جائرا في قسمتها وجب كتمانها منه ولم يجز دفعها إليه، فإن أخذها طوعا أو جبرا لم يجزهم ذلك عن حق الله تعالى في أموالهم، ولزمهم إخراجها بأنفسهم إلى مستحقيها، وقال مالك: يجزئهم ذلك ولا يلزمهم إعادتها.

ويرجع عدم التشجيع على المقايضة لتعذر إمكانية معرفة المرء ما لم يكن خبيرا للمعادل الصحيح لسلعة معينة بمقياس سائر السلع الأخرى، وحتى الخبراء أنفسهم لا يمكنهم أن يحسبوا المعادلات بين السلع إلا على وجه التقريب مما يؤدي إلى إلحاق الظلم بأحد طرفي الصفقة، لهذا فإن استخدام النقود هو أفضل وسيلة لتفادي المبادلات غير المتعادلة والمتكافئة.

وقد علل ابن تيمية النهي عن كراء المزارعة الوارد في حديث رافع بن خديج الذي قال فيه: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطواعية لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفع. قال: قلنا: ما ذاك؟ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى”، من أنه ربما غلت بقعة دون أخرى، فجاء النهي من أن يعين المالك زرع بقعة معينة لأن ذلك يبطل العدل في المشاركة.
وبمثل ذلك عللوا النهي في المضاربة من أن يعين العامل مقدارا من الربح أو ربح ثوب بعينه.

ونقل ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالا مثل صاحبه دنانير أو دراهم ثم يخلطان ذلك حتى يصيران مالا واحدا لا يتميز على أن يبيعا ويشتريا ما رأيا من أنواع التجارات، على أن ما كان فيه من فضل وربح فلهما، وما كان من نقصان فعليهما، فإذا فعلا ذلك صحت الشركة.

واعتبارا لمعنى العدل منع الشافعي الشركة في العروض لاختلاف القيمة فيها وأجازها في الدنانير والدراهم لانضباط قيمتها وإمكانية تحقق العدل فيها.

وعلق ابن المنذر على مذهب الشافعي هذا فقال: (وإنما كره من كره الشركة بالعروض لاختلاف القيمة فإذا كان سواء من جنس واحد وسعر واحد فهو في معنى الدنانير والدراهم لا فرق بينهما).
واعتمادا على مقصد العدالة الذي حرصت الشريعة على إقامته في كل شيء عموما وفي كل الأموال خصوصا حكم الفقهاء بفساد العقود التي تقترن بها شروط تفضي إلى الإخلال بمقصد العدالة فيها، وبناء على هذا جعل من الشروط المفسدة لعقد الوقف  تخصيص البنين به دون البنات.

وذكر ابن عبد الرفيع أن إخراج البنات من الحبس أشد عند الإمام مالك في الكراهية من هبة الرجل لبعض ولده لقوله عز وجل: {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا} الأنعام:139.

ولقد اقتفى الفقهاء أثر الشريعة في رعاية مقصد العدل فأخذوا به في فتاويهم ونوازلهم وجعلوه مستندا لأحكامهم فيها.

وقد ذكر ابن نجيم أن الغرامات إذا كانت لحفظ الأملاك فالقسمة على قدر الملك، وإن كانت لحفظ الأنفس فهي على عدد الرؤوس.

وهذا ما يقتضيه العدل لأن الغرم إذا كان لحفظ الأملاك فالأملاك غير متساوية، فمنها الكبير والصغير ومنها الثمين وغيره، فتغريم أصحابها بالقدر نفس فيه ظلم لهم، وإنما يكون الغرم على قدر الملك وقيمته، أما إذا كان لحفظ الأنفس فالأنفس عند الله متساوية لا فضل لشخص على شخص إلا بالتقوى، ومن ثم كان الغرم على عدد الرؤوس بالتساوي وهذا هو العدل المطلوب شرعا.
وقد نقل الماوردي عن بعض العلماء قولهم: (الخراج عمود الملك، وما استغزر المال بمثل العدل، وما استنزر بمثل الجور).

هذا مفهوم مقصد العدل في المال العام من حيث موارده وجبايته، أما من حيث إنفاقه فالعدل فيه ليس هو التسوية بين الرعية في مقدار الأموال الذي يصل على أيديهم، وإنما العدل هو التسوية في دفع ضروراتهم وحاجاتهم، لأن دفع الضرورات والحاجات هو المقصود الأعظم في النفقات وغيرها من أموال المصالح.
فيقدم ذوو الضرورات على ذوى الحاجات ويقدم ذوو الحاجات الماسة من دونهم من الحاجات.

لكن إذا تساوى ذوو الحاجات في حاجتهم فليس للإمام التفضيل بينهم في المال العام، قال السيوطي: (إذا قسم الإمام الزكاة على الأصناف يحرم عليه التفضيل مع تساوي الحاجات).
*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر