38serv

+ -

حتى تكون الشهادة ذات أثر فعال في التصرفات المالية، أولت الشريعة اهتماما خاصا لكيفية أدائها ووقوعها فأناطتها بجملة من الأوصاف، يتعلق بعضها بالشاهد ويتعلق البعض الآخر بالشهادة نفسها. وبناء عليه، فإنها قد جعلت كل من لا تجوز شهادته على رجل فلا تجوز تزكيته لمن شهد عليه، ولا تجريحه لمن شهد له، وكذلك كل من لا تقبل شهادته لرجل فلا تقبل تزكيته لمن شهد له ولا تجريحه لمن شهد عليه.

وقد اشترطت الشريعة لقبول شهادة الشاهد أن لا يكون عدوا للمشهود عليه، ولا متهما فيما يجر نفعا لنفسه بشهادته، أو شرفا لأسرته، أو دفع ضرر عن نفسه، أو دفع عار عن أسرته، وأن لا يكون الشاهد أصلا للمشهود له ولا فرعا منه، على اختلاف في بعض التفاصيل بين العلماء، فإذا حدث شيء من هذا بطلت الشهادة، قال ابن حارث الخشني (فكل شهادة سقط بعضها لتهمة الشاهد فإن شهادته في سائر الشهادات ساقطة).

ولكي تكون الشهادة مقبولة لدى القاضي، يجب أن تكون مفسرة ومفصلة في غالب الأشياء، قال الونشريسي: (فاعلم أن الشهادة المجملة لا تقبل في ملك ولا غبن، ولا في ترشيد، ولا في تسفيه، ولا في تولية، ولا عدم، ولا في ضرر، ولا في سرقة، ولا فساد بيع، ولا غصب). وقال ابن حارث: (فكل شهادة يشهد فيها الشهود يجري معناها على حكمهم وتمييزهم، وأنها لا تقبل حتى يفسرها تفسيرا يكون الحاكم هو الناظر فيها).

وبناء عليه، فإن شهد شهود في السرقة فلا تقبل شهادتهم مجملة، بل لا بد أن يسأل الحاكم الشاهدين عن السرقة ما هي وكيف أخذها السارق، ومن أين أخرجها، وإلى أين أخرجها، فإن غابا قبل أن يسألهما الحاكم لم يقطع السارق، لاحتمال أن يكون ذلك دون نصاب، أو من غير حرز، فإن قالا: إنها مما يجب فيه القطع وغابا قبل أن يسألهما لم يقطع، إلا أن يكونا من أهل العلم ومذهبهما مذهب الحاكم. ومن هذا القبيل، إذا شهد الشهود على الغصب، لا تحمل شهادتهم حتى يبيّنوا الملك المغصوب، وناحية من الأرض يكون ذلك فيها. وكذلك إذا شهد شاهدان أن رجلا باع لرجل سلعة بمائة دينار لم يقض بذلك عليه؛ لأنه ليس في شهادتهم ما يوجب أنه قبض السلعة.

وكما أن شهادة الشهود لا تقبل مجملة، فهي لا تقبل أيضا على وجه التقريب والتخمين، بل لا بد أن تكون على القطع والتحقيق، فقد سئل ابن رشد عمن استغل ضيعة رجل ظلما وعدوانا ثم شهد عليه أن قيمة غلة الضيعة على التقريب بكذا، فهل تجوز الشهادة على تقريب دون معاينة؟ فأجاب: لا تجوز شهادة الشهود على التقريب والتخمين، وإنما تجوز على القطع والتحقيق ومعرفة الاستغلال، فتستنزل البيّنة حتى تشهد ما تقطع عليه ولا تشك فيه، فإن أنكر أن يكون استغل أكثر مما يشهد أحلف على ذلك في مقطع الحق بالله الذي لا إله إلا هو، ويكون له ما أنفق في عمارة الضيعة والقيام عليها فيما عليه من الغلة، وكذلك ما أداه إلى السلطان من الخراج كان حقا واجبا وإلا فلا.. وبالله التوفيق.

وإذا ما تحققت جميع الأوصاف المذكورة سلفا في الشهادة، فإنه يكون للأخذ بها وعدم الأخذ بها أثر بارز في قبول تلك التصرفات وعدم قبولها، وكذلك ما يترتب عليها من الضمان وعدمه. فقد سئل أبو العباس الإبياني عما إذا أقر السمسار الثوب عند التاجر لمشاورة صاحبه فقال التاجر: ما لك عندي ثوب ولم تترك عندي شيئا، ما الحكم في ذلك؟ فأجاب: يضمنه السمسار؛ لأنه غرر إذ لم يشهد عليه، وكذا لو وكل رجل رجلا في قضاء دينه، فعلى الوكيل أن يشهد على ذلك، فإن قصر ضمن بترك الإشهاد.

وإنما قال مالك: لا يقبل قول الوصي في دفع مال اليتيم بلا إشهاد، ويقبل قوله في النفقة، وفي الجميع هو مدع لإخراج مال عن يده؛ لأن النفقة لا يمكنه الإشهاد عليها، لأنه لو كلف ذلك لأضرّ به، فيقبل قوله فيها من غير شهود وليس كذلك الدفع، فإنه يمكن الإشهاد عليه بلا مضرة بخلاف النفقة. وقال أصبغ: إذا بعث قاض إلى قاض بمال، فعلى الرسول أن يشهد بإيصاله، وإلا يضمن إن جحد القاضي المبعوث إليه قبضه أو مات أو عزل فلم يعرف للمال موضع.

ومما يدخل تحت هذا قول المالكية بتضمين الشاهد ما أتلف بشهادته مع أنه غير مباشر، ولم يضمنوا القاضي ما أتلفه بحكمه مع أنه مباشر؛ لأن المصلحة العامة اقتضت عدم تضمين الحكام ما أخطؤوا فيه، لأن الضمان لو تطرق إليهم مع كثرة الحكومات وتردد الخصومات لزهد الأخيار في الولايات، واشتد امتناعهم، فيفسد حال الناس بعدم الحاكم، فكان الشاهد بالضمان أولى؛ لأنه مدخل للحاكم في الإلزام والتنفيذ وكما قيل: الحاكم أسير الشاهد.

وإلى جانب هذا، هناك بعض التصرفات لا تقبل فيها شهادة أي شخص كان ولو كان عدلا، بل يشترط في شهودها أن يكونوا من أهل البصر والخبرة، وذلك لتوقف الحكم في تلك التصرفات على وصفهم وحكمهم، قال الباجي: (لا يحكم في العيوب بأقل من شهادة عدلين من أهل البصر بتلك العيوب). وقد سئل أبو سعيد بن لب عن فندق بين رجلين في قرية يحده من جهاته الأربع جنات وطريق وليس فيه علو، وإنما فيه بيوت وسقائف للدواب، وهو بين الرجلين بالسواء، فذهب أحدهما إلى قسمته وامتنع الآخر عن ذلك، وقال: إن في قسمته ضررا، فهل يجبر الممتنع عن القسمة عليها أم لا؟ فأجاب: بجبر على القسمة من أباها إذا طلبها أحد الشريكين، إلا أن يثبت أن القسمة في الفندق تعود بالضرر، فإن ثبت ذلك بوقوف أهل البصر وشهادتهم، منع منها على مذهب ابن القاسم وبه جرى العمل.

*رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر