38serv

+ -

 نشرت من مدة على صفحات هذه الجريدة مقالا عنونته بـ«الابتداعفوبيا أو فوبيا الابتداع”، تحدثت فيه عن هذه الظاهرة أو المرض الذي أصيب به البعض من طلبة العلم الشرعي ومن عامة الناس وحتى من العلماء، حيث أصبحت كلمة بدعة تتكرر على ألسنتهم أكثر من ذكر الله تعالى، وأضحت أسرع إلى ألسنتهم في الحكم على العادات الاجتماعية وتطورات الحياة من ومض البرق!. وصارت عقولهم تتوقف عن التفكير، وآذانهم تنغلق عن سماع الآراء الأخرى، والنظر في أدلتها بمجرد سماع كلمة (بدعة)!، فما عادت تنفع معهم أدلة جلية ولا (رُقية) علمية!.
إن الموضوع يحتاج لبحوث عديدة وجهود كبيرة من أجل تصحيح المفاهيم المتعلقة به، ومعلوم أن شيوع الانحراف والخطأ غالبا ما يكون سهلا ميسورا، ولكن تصحيح الخطأ والانحراف غالبا ما يكون متعبا ومكلفا وشاقا، خاصة في القضايا التي تشيع في المجتمع، وتتحول إلى مسلمات أو مقدسات عند الناس، مصداق المثل الشعبي القائل: (الخير عقبة، والشر حدور). ولكن لا بأس بومضة قد تسهم في فتح مسارات الفهم لدى البعض، وأول الغيث قطر ثم ينهمر.

إن (بدعة) ليس حكما شرعيا، بل هو وصف شرعي، فالأحكام الشرعية معروفة محددة: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، والعلماء لهم موقفان معروفان من البدع، منهم من يقول: المستحدثات تخضع للأحكام الخمسة، فمنها الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه والحرام، ومنهم من يقول: كل مستحدث بدعة حرام، ومن حكّم أصول الشرع والأدلة تبين له صواب الرأي الأول وقوته، قال الإمام الشافعي رحمه الله: “المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما: ما أُحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهذه البدعة الضلالة، والثاني: ما أُحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا فهي محدثة غير مذمومة”. يوضح ذلك ما قاله الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله عن التراويح: “وصار بدعة؛ لأنه لم يكن مفعولا فيما سلف من الأزمنة، ونِعْمَت البدعة، سنّة أُحْيِيَت وطاعة فُعِلَت. والبدعة بدعتان: بدعة هُدى واقتداء، وبدعة ضلالة واعتداء”. فالحياة لا تتوقف والمستجدات والحوادث لا تفتأ تظهر، ولا حكم إلا بتحكيم أصول الشرع وقواعده فما شهدت له فهو مشروع وما ردّته فهو مدفوع غير مقبول. لكن من ليس له تمكن في علم الشريعة -ومن هو جاهل بها من باب أولى- يستروح للسطحية، ويقتنع بقول من يقول: لم يكن في الزمن النبوي أو في زمن السلف فهو بدعة!، وهذه كلمة لا يقولها إلا سطحي لم يتحقق بالعلم الشرعي، لو أخذنا بظاهرها لبدعنا كل شيء، ولكن العلماء الربانيين بحق، المتحققين بعلم الشرع هم من يزنون النوازل والمستجدات بأصول الشريعة وقواعدها، فيميزون بين ما له أصل شرعي وبين ما لا أصل له، وشتان بين فقيه وسطحي، ولكن جمهور الناس لا يعلمون.

إن من الهام جدا تقويم فهم الحديث الشريف، وفي البدعة وردت أحاديث كثيرة، أشهرها، قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ»، وهو يشهد لمذهب المحققين أن البدعة المقصود بها ما لم يشهد له أصول الشرع، أما ما كان مبنيا على أصل شرعي فهو مشروع، إذ معنى الحديث بمفهوم المخالفة: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه أو عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ، أما من أحدث في أمرنا هذا ما هو منه أو عمل عملا عليه أمرنا فهو مقبول، وكيف يكون منه أو عليه أمرنا؟، إما أن تدل عليه النصوص الشرعية صراحة أو تدل عليه استنباطا، أو تشهد له الأصول والقواعد بالجواز، وهذا الكلام قد يبدو غريبا لعضهم -خاصة طلبة العلم الشرعي الذين بُرمجوا على برامج محددة- ولكن هذا التحقيق ذكره أئمة الإسلام الكبار، فمثلا قال الإمام أبو العباس القرطبي المالكي في شرحه لصحيح مسلم: “وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ» أي: من اخترع في الشرع ما لا يشهد له أصل من أصوله فهو مفسوخ، لا يعمل به، ولا يلتفت إليه”. وقال الإمام الصنعاني صاحب ‘سبل السلام’: “«ما ليس منه» أي ما لم يكن في كتاب ولا سنة ولا قياس صحيح ولا إجماع”. وقال الإمام شرف الدين الحسين بن عبد الله الطيبي في شرحه لـ’مشكاة المصابيح’: “وفي قوله: «ما ليس منه» إشارة إلى أن إحداث ما لا يُنازع الكتاب والسنة ليس بمذموم”. فالعبرة عند المحققين بالدليل، فدعْ عنك مسالك السطحيين.

إن أجلى ما يوضح هذه الحقيقة الغائبة عن كثير من الناس هو فعل الصحابة الكرام، فهم أفهم للحديث، وأعرف بالشرع، وأبعد الناس عن الابتداع، وقد فهموا أن إحداث أمور من غير الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم جائز إذا كانت مما يشهد لها عمومات الشرع وأصوله، فإن العامل بما شهدت له عمومات نصوص الشرع وأصوله وقواعده لا يعد قد أحدث في الدين ما ليس منه، بل هو عمل بما هو من الدين بلا ريب ولا شك، وإليك بعض [أقول: بعض فقط] الأمثلة الثابتة بالحديث الصحيح، التي لا تترك لقائل قول إلا مكابر أو معاند، والمكابر والمعاند جاهلان لا ينفع معهما دليل ولا حجة.

- حديث أبي هريرة في قتل قريش لخبيب بن عدي رضي الله عنه، جاء فيه: “فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل، قال لهم خبيب: دعوني أصلى ركعتين، فتركوه فركع ركعتين، [ثم قتلوه].. وكان خبيب هو سن لكل مسلم قتل صبرا الصلاة” رواه البخاري. فهذه الصلاة لم يأمر بها النبي عليه السلام بعينها، ولكن خبيب أحدثها (وسنّها) من اجتهاده أخذا بعموم النصوص الآمرة بالصلاة.

- حديث أنس رضى الله عنه، قال: كان رجل من الأنصار يؤمهم فى مسجد قباء، وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح به {قل هو الله أحد} حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كل ركعة، [فأنكر عليه أصحابه ذلك] فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر، فقال: «يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك، وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة». فقال: إني أحبها. فقال: «حبُّك إياها أدخلك الجنة» رواه البخاري. فهذا الصحابي أحدث شيئا في الصلاة من عند نفسه دون الرجوع للنبي عليه السلام، بدليل أنه سأله عن سبب إحداثه ذلك، ولم ينكر عليه، بل أثنى عليه، ولو كان فِعلُ ما له أصل بدعة لأنكر عليه النبي عليه السلام أشد الإنكار حتى لا ينفتح الباب لغيره.

- حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فإني سمعت الليلة خشف نعليك [صوت حركة المشي] بين يدي في الجنة»، قال بلال: ما عملت عملا في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي. رواه مسلم. وهو صريح في أن إحداث بلال رضي الله عنه لتلك الصلاة بعد كل وضوء هو مما تشهد له نصوص الشرع وقواعده التي ترغب في التنفل بالصلاة؛ ولذلك أقره عليه السلام عليها، وأعلمه بأنها رفعت مقامه في الجنة.

ورغم أن هذه الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا أن المنهج الصحيح في التعامل مع المستجدات يكون بعرضها على أدلة الشرع وأصوله وقواعده فما شهدت له فهو من الدين وعليه أمر الشرع، وما لم تشهد له فهي ردّ، إلا أن المعاند والمكابر يأتيك بتأويل بارد يتعجب المرء كيف خطر على ذهن عاقل، فيقول لك: هذه الأمور صارت سنة بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الصحابة على فعلهم!!. (وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنكِ عارُها)، ومغالطة متهافتة؛ لأن الاستدلال بهذه الأحاديث هو في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم على المنهج الذي سلكوه، حيث أحدثوا أمورا وفعلوا أشياء محددة لم يأمرهم بها بعينها، دون علمه بدليل استفساره لهم عنها، ولكن تشهد لها أدلة شرع وقواعده، وأقرهم على منهجهم هذا، فهو منهج نبوي، لا ينكره إلا جهول غوي. وما أفقه عمر رضي الله عنه، حين «قال: أبو بكر قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر هو والله خير... وما أفقه الصديق رضي الله عنه، حين قال له ولعمر زيد: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: هو والله خير» رواه البخاري. وهذا ورد في جمع القرآن في مصحف واحد، وهو أمر تركه النبي عليه السلام مع قيام المقتضى والحاجة إليه في زمنه، وفعله الصحابة بعده؛ لأنه خير تشهد له أدلة الشرع وقواعده. فلا بأس عليك أيها المسلم، لا تصب بالابتداعفوبيا!. واطمئن، فما أحدثه المسلمون مستندين لعموم نصوص الشرع وأدلته وأصوله وقواعده هو خير، وقل بثقة: ليس بدعة!!.

*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة