38serv

+ -

كل الحروب التي شنّتها إسرائيل منذ قيامها عام 1948 حتى يومنا هذا، هي حروب استعمارية تدميرية، بل أبشع أشكال الحروب الاستعمارية، لأنها حروب احتلال وطرد السكان (أهل البلد) وإحلال مستعمرين مكانهم. وكل الحروب التي خاضتها الأمة العربية ضدها هي إما حرب تحرير أو مقاومة، أما حرب الفلسطينيين ضد إسرائيل، فهي مقاومة ضمن إطار مقاومة المحتل وحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد.

ما يحدث من عدوان همجي على غزة، هذه الأيام، هي حروب غير عادية، حروب قذرة ترتكب بها إسرائيل جرائم حرب مكتملة الأركان، من خلال مجازر بشعة ضد المدنيين العزّل، من الأطفال والشيوخ والنساء والمرضى في المستشفيات.

تجاوز عدد الشهداء المدنيين الفلسطينيين السبعة آلاف، وتجاوزت نسبة الأطفال والنساء والشيوخ 80% منهم، إضافة إلى أفراد الطواقم الطبية الذين استشهدوا بالقصف أو القنص المباشر، واستهداف سيارات الإسعاف، والمؤسسات الإنسانية كالمستشفيات والمدارس، وبيوت العجزة وذوي الاحتياجات الخاصة، ومؤسسات الأمم المتحدة، وحتى وسائل الإعلام وأقربائهم لم يسلموا من آلة البطش والتدمير الإسرائيلية.

وفي المقابل، فإن المقاومة عاملت الأسرى معاملة إنسانية راقية، وقد فضحت وسائل الإعلام العالمية ادّعاءات وكذب وافتراءات اليهود، ومن الواضح جدا أن المقاومة انتصرت في المعركة الأخلاقية، حيث يقف المقاوم الفلسطيني، اليوم، في مواجهة سياسة الأرض المحروقة، وهي تحرق غزة صباح مساء، ولكنه يحمل أخلاقيات الحرب، فيقاتل وهو يسلم روحه لمنهج عقائدي متماسك، يحافظ على شرف القتال، ويخشى في الله أن يسأله عن ضحية قتلها من دون حق، أو أساء معاملتها.

إذا كان السلم هو الأصل في الإسلام، وإنما شرعت الحرب في الإسلام لأسباب وأهداف محدّدة، فإن الإسلام كذلك لم يترك الحرب هكذا دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها قيم وضوابط تحدّ مما يصاحبها، وبهذا جعل الحروب مضبوطة بالأخلاق ولا تسيّرها الشهوات، كما جعلها ضد المحتلين والمعتدين لا ضد الأبرياء والمسالمين. قال الله تعالى: {وقاتلوا في سبيل اللّه الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن اللّه لا يحب المعتدين}، كما أكد النبي صلّى الله عليه وسلم بشدّة على ضرورة رعاية الأحكام الشرعية والإنسانية في الحروب.

إن الحروب في الإسلام ليست دينية يمليها التعصب الديني، بهدف إبادة المخالفين في الدين، فقد قال تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ}، وليست الحروب في الإسلام بقصد التسلط على الأمم والشعوب الأخرى لأن ذلك ظلم، والظلم حرام ممنوع في جميع الأديان.

وليست الحروب في الإسلام حروبا استعمارية أو اقتصادية لسلب الشعوب أموالها، ونهب خيراتها وثرواتها، وقد قال ربعي بن عامر مبعوث سعد بن أبي وقاص إلى الفرس لرستم قائد الفرس: “إنا لم نأتكم لطلب الدنيا، ووالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم”.

إنما الحرب مشروعة في الإسلام ضرورة يُلجأ إليها في حدود الحق والعدل، قال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}؛ لأن الأساس الواضح المميّز للجانب الإنساني في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، وأما الحرب فهي أمر طارئ لدفع الشرّ والعدوان.

وتبقى الجوانب الإنسانية حاضرة في حروب المسلمين، فحماية السكان المدنيين وأموالهم واجبة، والحرب مقصورة على الجيوش المتحاربة، فلا تتعدّاها إلى بقية شعب دولة ذلك الجيش المعادي، ولا يجوز إتلاف شيء من أموال العدو من أبنية وزروع وأشجار ومنشآت مدنية كالجسور والطرق إلا لضرورة حربية، قال تعالى: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.

وتقيّد نظام الحروب في الإسلام مبادئ أخلاقية رائعة، استُفيد منها في المعاهدات الدولية، وجعلت المسلمين مضرب الأمثال في معاملتهم للأعداء، وتحكمها قيم سامية تتمثل في حسن المعاملة للأسرى، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، وعدم المساس بالمنازل والشجر والدواب، فلا قتال إلا مع المقاتلين، ولا عدوان على المدنيين.

وقد أشاد القرآن الكريم بمن يساعد الأسير في قول الله تعالى: {ويُطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله، ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الإسلام، ويروي بريدة رضي الله عنه فيقول: كان رسول الله إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، وكان مما يقوله: «ولا تقتلوا وليدا»، وفي رواية أخرى: «ولا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا ولا امرأة». ومنها وصية أبو بكر الصديق رضي الله عنه لجيش أسامة بن زيد قبل مسيره قائلا: “أيها الناس، قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تقطعوا نخلا ولا تحرقوه ولا شجرة مثمرة، وسوف تمرّون بأقوام قد فَرَّغُوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له”.

ولازم مبدأ الفضيلة والتقوى ومبدأ الشفقة والرحمة بقدر الإمكان حروب المسلمين، كما تميّز المسلمون بالتزام مبدأ العدالة مع خصومهم عملا بقوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}.

ولذا، حفظ التاريخ للمسلمين حسن معاملتهم للأسرى والجرحى والقتلى، وقد قال نبيهم صلى الله عليه وسلم: “استوصوا بالأسرى خيرا”.