+ -

 إن هذا السؤال مستحَق، والإجابة عليه مطلوبة، ومن سأل خير ممن لم يسأل؛ لأنه ليس بدعا من القول، بل إن من سلف هذه الأمة وسبقها سأل عن موعود النصر وزمنه، وخلد القرآن الكريم هذا المطلب، فقال سبحانه: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} البقرة:214. وعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصِر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ فيحق للمسلمين وهم يشاهدون القتل والمعارك البطولية لأهل غزة أن يتساءلوا: متى نصر الله؟ حق لهم أن يترقبوا نصر الله وانتهاء القتال لصالح المسلمين، إنه لجدير بالمسلمين أن يتساءلوا إشفاقا وحرقة وتعاطفا صادقا، متى تنتهي مأساة المستضعفين والمحاصرين في غزة.

وللإجابة عن هذا السؤال، لابد من تحديد مفهوم النصر ابتداء، إذ هو الفيصل في إزالة اللبس وترسيخ العلم وبيان الحقيقة، فالبعض يظن أن النصر في عدد القتلى والمصابين والدمار الذي يلحقه طرف في الطرف الآخر، والبعض يراه في تفوق العدد والعتاد والسلاح والظهير، وبهذا المعنى، يكون صاحبه قد حسم الأمر وقطع به لليهود وشركائهم في الجريمة، وهذا فهم قاصر؛ ورؤية عمياء للحقائق، لا يستقيم مع كتاب الله تعالى ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، ولا يستقيم أيضا مع الواقع والمشاهد عبر التاريخ. فإذا كنا نبحث عن الانتصار ونترقبه، فإن النصر ليس له صورة واحدة، ولا مظهرا واحدا، فمن صور الانتصار ومظاهرِه الغلبة على الأعداء وقهرهم، وظهور الحق ورفعته وكذلك أهله، وهذا النوع من النصر يكاد يكون النوع الذي ينتظره الناس، ويتعلقون به ويحبونه، وقد قال الله تعالى عنه: {وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب} الصف:13، والنصر بهذا المعنى لا يكون لكل المؤمنين، ولا في كل الأزمان، ولا في كل الأماكن، بهذا قضت سُنت الله ومضت، فقد مات من أصحاب رسول الله من مات ولم يشهدوا فتح مكة، ومات كثير منهم بعد ذلك في معارك الفتوح ولم يشهدوا فتح فارس والروم، لكن شهدها غيرهم ممن جاء بعدهم.

ومن أنواع النصر ومظاهر الانتصار إهلاك المكذبين ونجاة المرسلين والمؤمنين، ومن مظاهر الانتصار النصر بالانتِقام من الأعداء المكذبين بعد وفاة الأنبياء والمرسلين، وموت الدعاة والمصلحين، كما فعل الله بالملك وجنوده صاحب الأخدود، ومن مظاهر النصر أيضا النصر بالحجة وصحة الدليل والبرهان، كانتصار إبراهيم عليه السلام على النمرود بأن هزمه الله وخذله: {فبهت الذي كفر} البقرة:258، ومن أنواع النصر العجيبة ومظاهرِه الغريبة: النصر بالهِجرة وتحمل الأذى والقتل، وكم قتل من الأنبياء والذين يأمرون بالقسطِ من الناس، ومنهم من طرد، ومنهم من هاجر، لكنهم انتصروا بذلك، قال تعالى: {فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله} آل عمران:195، فيحصل بالهجرة والأذى والطرد، إما الشهادة، وإما ظهور الدين؛ فالهِجرة والتعذيب وأنواع الابتلاء كلها معالم نصرٍ في علو الذكر، وزيادة الأتباع، وكف الأعداء، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، قال تعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}.

ومن مظاهر النصر وصور الانتِصار الثبات والصبر واحتساب الأجر، وعظم البلاء، وهل أعظم نصرا وأحسن توفيقا من أن يسدد الله عبده ليعلو على شهواته، ويجتاز العقبات بشجاعة وثبات؟ إنه انتصار الباطن الذي يعقبه انتصار الظاهر.

إذن؛ لو تأمل المتأمل في هذه المظاهر والأنواع من النصر والانتصار، لعلم سعة فضل الله وحكمته، وإذا فقه المسلم ذلك، فإنه لن يستكين أمام قوة الظالمين، وضغوط المخذولين، ومساومات المنافقين، واستعجال الأتباع وعدم صبرِهم، فالانتصار في الحقيقة هو انتصار الدين، وليس انتصار الأشخاص والجماعات، إنه انتصار المبادئ والقيم والعقائد الصحيحة، وانتصار الإسلام في ظهور شعائره وعبادته، وعمارة المساجِد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك، نحن نرى غزة تنتصر اليوم قبل الغد.

* إمام مسجد الشهداء - بوروبة