المثل العربي السائر بين الماضي والحاضر.. ينبوع اللغة وضمير الأمة

38serv

+ -

 تعدّ الأمثال العربية رافدا من روافد اللغة العربية التي حفظها الله تعالى بحفظه للقرآن الكريم، حيث قال: {إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون}، وميزها بهذا الانتقاء عن غيرها من اللغات والألسن، وجعل تعلمها وتعليمها فضيلة من فضائل الدين. فالأمثال من أهم مصادرها، وأغزر ينابيعها التي لا تعرف نضوبا، باشتمالها على الكثير من المفردات اللفظية والاستعمالات اللغوية.
وتبقى الأمثال ضمير الأمة، وخزائن تراثها الأدبي والشعبي، لما تضمنته من معان بالغة، تفننت عقول الرجال في استخلاصها وصياغتها وما انطوت عليه من أحداث جسام، تداولت أيدي الشعوب والقبائل في صناعتها. وبهذا، فهي تحمل في طيّاتها أخلاقيات وقيما ومُثلا عليا لأولئك الذين نسجوا خيوطها، تتجلى من خلالها مظاهرهم الاجتماعية والإنسانية بجميع أبعادها الدينية، والأخلاقية، والتاريخية، والأدبية، والاقتصادية، والقانونية، والسياسية.

ويكفيها قدرا وفخرا إيراد القرآن الكريم لها في أكثر من موضع، حيث قال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون} الزمر:27، وقوله: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرةٍ طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} إبراهيم:24. وعلى نهج القرآن درجت السنة في استعمال المثل، فقال أفصح من نطق بالضاد: “مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير”، وعلى هذا المسار تتابع الفصحاء والبلغاء من العرب والمسلمين.

والذي نقصده بالأمثال العربية ذلك المعنى الواسع الذي يضم الأمثال الجاهلية، وأيام العرب والأمثال الإسلامية، وأمثال المولدين، مما شاع على ألسنة الناس، والأمثال الواقعة في الحديث الشريف وغيرها.

وقد قال أهل الصنعة والحكماء: تجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: (إيجاز اللفظ - إصابة المعنى - حسن التشبيه - جودة الكناية)، وهذه الأمور إذا اجتمعت في كلام كانت نهاية البلاغة فيه.

ولقد خُصّت الأمثال العربية في القرون الستة الأولى من التاريخ الهجري بأعمال جليلة وعناية كبيرة: جمعا، وترتيبا، وتبويبا، وشرحا، وتعليقا. ونذكر في هذا المقام نخبة من تلك الأعمال: كتاب “أمثال العرب” للمفضل بن محمد الضبي (ت:178هـ)، وكتاب “الأمثال” لأبي فيد مؤرج بن عمرو السدوسي (ت:195هـ)، وكتاب “الفاخر” للمفضل بن سلمة بن عاصم (ت:290هـ)، وكتاب “الزاهر” لابن الأنباري (ت:228هـ)، وكتاب “جمهرة الأمثال” لأبي هلال العسكري (ت:395هـ)، وكتاب “فصل المقال في شرح الأمثال” لأبي عبيد البكري (ت:487هـ)، وكتاب “مجمع الأمثال” لأبي الفضل أحمد بن محمد بن إبراهيم الميداني (ت:518هـ)، وأخيرًا كتاب “المستقصى في أمثال العرب” لأبي القاسم جار الله بن عمر الزمخشري (ت:538هـ).

إلا أن هذه العناية قد بدأت بعد القرن السادس تتآكل أطرافها شيئا فشيئا، وأخذت في الانحسار بعد الانتشار، ولم يكن هذا الأمر مقصورا عليها فحسب، بل هو بلاء مسّ جميع العلوم العربية بحكم الخلل الذي وقع في استعمال اللسان العربي في البيئة العربية والإسلامية، حتى آل الأمر في عصرنا إلى انقلاب كامل في الأوضاع اللغوية، وانعكاس تام لصورتها حيث صار واقعا، أصبح معه فصيح اللسان غريبا، وغريب اللسان متعارفا عليه، وضع يصعب معه استيعاب الأمثال ذات الجودة العالية من اللغة، ما أفضى إلى انحياز الناس إلى الأمثال العامية أو الأجنبية في أحيان كثيرة.
ومن هنا، نهيب بكل المخلصين الصادقين مع لغتهم، والذين لهم يد أو تأثير في المنظومة التعليمية والتربوية، أن يساهموا في إحياء تلك الأمثال وغرسها في لسان الأجيال، ولِمَ لا يكون تدريس الأمثال العربية الفصيحة مادة دراسية مثل باقي المواد اللغوية.. والله من وراء القصد، وهو الموفق لما فيه الخير والصواب.

* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر