38serv

+ -

أسبوعان بعد تشييع جثمان الرمز التاريخي حسين آيت أحمد، لا تزال قرية آث أحمد بعين الحمام في ولاية تيزي وزو قبلة لعشرات الزوّار يوميا، في سابقة لم تشهدها أي قرية من قبل. مجموعات من المواطنين من كل الفئات ومن مختلف النواحي تحجّ إلى قرية آث أحمد التي عاشت في هدوء رهيب طيلة عشرات السنين، وسط  الجبال بعيدة عن الصخب، حيث يكون بلوغها عن طريق وعر ضيّق وسط منعرجات خطيرة. هذه القرية الصغيرة المنسية في أحد منحدرات عين الحمام لعشرات السنين. شخصيات سياسية، مسؤولو منظمات مختلفة زاروا هذه القرية التي لم يكن يسمع بها أحد قبل وفاة حسين آيت أحمد، الذي قرّر أن يعرّف الناس بمسقط رأسه باختياره أن يدفن هناك.وتعيش القرية أطول جنازة ربما في التاريخ الجزائري. فمنذ الإعلان عن وفاة الرجل في 23 ديسمبر المنصرم، لا تزال مراسم الجنازة تطبع يوميات القرية، حيث يتجمّع المواطنون هناك يستضيفون زائري قبر المرحوم للترحم عليه، ويتم ترديد كل مساء مدائح دينية، فيما يبقى القبر قبلة لعشرات الزائرين من مختلف المناطق والفئات، بين من يتلو سورة الفاتحة على روح الفقيد، ومن يضع إكليلا من الزهور على القبر، وسط شموع مشتعلة باستمرار. بل ويؤكد سكان القرية أنهم لم يعيشوا طيلة حياتهم حدثا كان وراء التقاء أفراد القرية وأقارب المرحوم دفعة واحدة مثلما يحدث هذه الأيام، ويبدو أن الأمر سيبقى على حاله إلى غاية إحياء الأربعينية.ولا تزال الترتيبات التي تمّ وضعها تحسبا للجنازة قائمة، حيث لا تخلو القرية يوما واحدا من أعداد الزوّار، وحتى الخيمة العملاقة التي تمّ نصبها لاستقبال الناس لا تزال قائمة، مثلما لا يزال الطريق المؤدي نحو القرية يعجّ بالسيارات وبحركة مرور لم تشهدتها المنطقة من قبل، إلى درجة صعوبة إيجاد مكان لركن السيارة هناك.وقد عانت قرية آث أحمد، على غرار العديد من قرى ولاية تيزي وزو، من التهميش التنموي لعشرات السنين، فموقعها الجغرافي زاد من حدّة المعاناة خصوصا أن عدد سكانها قليل، وكلهم ينحدرون من سلالة الولي الصالح الشيخ محند أولحسين، المعروف بحكمته عبر السنين، كما أن الكثير منهم غادروا القرية للإقامة في مناطق أخرى وذلك بسبب قلة الإمكانيات. فرغم قساوة الطبيعة في الشتاء وكثافة الثلوج التي تكسو المنطقة في فترة طويلة من السنة، إلا أن القرية لم يتم ربطها بالغاز الطبيعي، كما تحوّلت الطريق المؤدية إليها، مع ضيقها، إلى حفر متتالية، قبل أن تسارع السلطات العمومية لاستدراك الوضع بمناسبة الجنازة وقامت بإصلاحها وتهيئة القرية.مقام الشيخ محند أولحسين.. قبلة للزوّاريعدّ مقام الولي الصالح الشيخ محند أولحسين، في قرية آث أحمد، معلما تراثيا دينيا. وبقدر ما كان حسين آيت أحمد يعتزّ بانتمائه لسلالة هذا الحكيم، فإن الروايات تتجه كلها في وصف الشيخ محند أولحسين بالذكاء والحكمة، ويعرف بقصائده الشعرية التي تستمد معانيها من القرآن الكريم، رغم أنه، وبحسب نفس الروايات، لم يكن مستوى التحصيل العلمي عنده مرتفعا، إلا أن معاشرته لكبار العلماء جعل منه رجلا حكيما.مقام الشيخ محند أولحسين لا يزال يحتفظ بالطابع التقليدي، قبّة صغيرة يتوسطها ضريح الولي الصالح، يقصده المواطنون للتبرك به، في مدخله قبر المرحومة بن قداش مياسة، والدة حسين آيت أحمد، وعلى بعد أمتار من القبّة قاعة كبيرة للصلاة. وبجوار القبة، لا تزال قاعات قديمة جدا هي بيت الولي الصالح، وعلى جدرانها آثار الشموع التي تشعل للتبرك، معلم ديني يحتفظ بمكانة الولي الصالح الذي يقصده الكثير للتبرك، قبل أن يتحوّل فجأة إلى مكان يقصده الناس لأخذ صور تذكارية ستشهد يوما على الحدث الكبير الذي عاشته هذه القرية بمناسبة رحيل أحد أبنائها.الأنفاق.. السركانت المفاجأة في قرية آث أحمد بعد الإعلان عن وفاة سي الحسين كبيرة، حيث عمد أقاربه إلى فتح، ولأول مرة في التاريخ، أنفاق كبيرة أمام الصحافة والزوّار، وهي أنفاق ومخابئ أنجزها الشيخ محند والحسين، حسب روايات كبار السن في المنطقة، حيث استعملت في ثورة 1871، مثلما استغلها المجاهدون أثناء الحرب التحريرية للاختباء فيها والفرار عبرها، وهي الأنفاق التي تشاء الأقدار أن يستعملها حسين آيت أحمد للفرار يوم إلقاء القبض عليه في أحداث 1963. هذه الأنفاق الطويلة التي تمتد على مسافة كبيرة داخل القرية لم يتم فتحها، ولا حتى مجرد الحديث عنها، إلا بعد وفاة الراحل وذلك تنفيذا لوصيته.ولا يمكن التصديق أن قرية صغيرة مثل آث أحمد توجد بها أنفاق بهذا الحجم، رغم أن القرية والمنطقة عموما معروفة بمقاومتها للاستعمار، سواء في مرحلة المقاومة الشعبية أو خلال الثورة التحريرية، وقد تمّت المحافظة على هذه الأنفاق بكل عناية لتشهد على أن مجاهدين مرّوا من هنا، وأن واضع هذه الأنفاق، الشيخ محند أولحسين، لم يكن فقط وليا صالحا ورجل دين لكن، مثلما يروي أهل المنطقة، كان انتماؤه للزاوية الرحمانية دافعا له لخدمة القضية الوطنية.وما يجذب الانتباه فيها الطريقة التي أنجزت بها ومتانتها رغم مرور عشرات السنين عليها، وعمقها الكبير، وهو ما يوحي أن إنجازها استغرق وقتا طويلا وتم بطريقة تضمن الأمن، حيث تمكن حسين آيت أحمد، مثلما يروي كبار السن، من استعمالها للفرار عندما تمّت محاصرته هناك في الستينيات، وتمكن من الخروج من القرية بفضلها رغم أنه تم إلقاء القبض عليه في نفس اليوم، لكن بعيدا عن القرية.قرية آث أحمد تغيّر وجهها في وقت قياسييشهد سكان المنطقة أن قريتهم عانت تهميشا تنمويا لا يختلف كثيرا عن ذلك التهميش السياسي الذي عاشه ابنها حسين آيت أحمد من طرف السلطة، فقرية آيت أحمد التي تبعد بأكثر من 50 كلم من عاصمة الولاية تيزي وزو، بعيدة بنفس المسافة عن أعين السلطات العمومية. فهذه الأخيرة لم تتذكر يوما هذه القرية إلا بعد أن توفي الرجل، وقرّرت عائلته دفنه بمسقط رأسه، حيث سارعت السلطات العمومية، وعلى رأسها رئاسة الجمهورية التي تكفلت بالغلاف المالي، لتهيئة القرية وأصدرت تعليمات للسلطات الولائية بإنجاز كل ما يجب إنجازه، وإطلاق أشغال تهيئة صرفت عليها مبالغ مالية خيالية، وجنّدت لها مؤسسات بعتاد ضخم، فأصبحت قرية آيت أحمد تملك طريقا معبّدا من كل الجهات التي يريد الزائر أن يدخلها، سواء عن طريق بلدية مقلع، أو انطلاقا من قرية شعوفة.ولحسن حظ الشباب، فقد أصبح لهم فضاء لم يحلموا به يوما لتنظيم نشاطاتهم الرياضية، حيث تم تعبيد مساحة تفوق 1000 متر في مدخل القرية لكن ليس من أجل الشباب بل لإيجاد فضاء يأوي مئات الآلاف من الوافدين إلى الجنازة. وأضحت هذه القرية التي عاشت عشرات السنين في ظلام دامس تملك إنارة عمومية لم يحلم بها سكانها من قبل، وشهدت أسبوعا من التعبئة لم يسبق لمنطقة أن عاشت تلك الوتيرة من الأشغال، إلى درجة أن قال أهل القرية إن حسين آيت أحمد كان له الفضل في تهيئة قريته بعد وفاته، في حين تمنى سكان بقية القرى لو كان لديهم شخصية بحجم آيت أحمد ويموت لتستفيد قراهم، ولو من جزء، مما استفادت به قرية آث أحمد. ويشهد الكثير من مواطني ولاية تيزي وزو قبل غيرهم أنهم لم يسمعوا بهذه القرية، ولم يعرفوا أنها قرية هذا الرجل إلا بعد وفاته.وطيلة الأسبوع الذي سبق الجنازة، كان والي ولاية تيزي وزو، إبراهيم مراد، قد تحوّل إلى “ رئيس ورشة للأشغال العمومية”، حيث كان يتنقل يوميا لمتابعة الأشغال والسهر على إنجازها، ومن كثرة تردده على القرية أصبح وجوده فيها لا يشكل أي حدث بالنسبة للمواطنين.واليوم، فإن مواطني قرية آث أحمد الذين لا يتجاوز عددهم 300 نسمة، يفتخرون بانتمائهم لقريتهم التي يقولون إنها أنجبت كلا من الشيخ محند أولحسين وحسين آيت أحمد، ويتمسكون بأرضها مهما كانت ظروف المعيشة فيها، قرية مترامية في منطقة نائية، قرية منسية أخرجتها إلى العلن جنازة ليست كبقية الجنائز.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: