عندما تجرب الرحلة من الباهية وهران بشمال البلاد إلى بشار بالجنوب الكبير، تكتشف كيف يسهم خط النقل الممتد على نحو 700 كلم (وهران ـ بشار) في مد الجسور بين ساكنة الشمال والجنوب. إنه أكبر خط نقل على الإطلاق عبر ربوع الوطن حسب إطارات الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية، بل هو خط يدر أرباحا للشركة.
لكن مد الجسور بين الشمال والجنوب متوقف على بذل الجهود أيضا لحماية خط السكة الحديدية من الرمال المهددة لرحلات القطار في كل مرة، خصوصا أنه خط له آفاق مستقبلية واعدة في الجانب الاقتصادي والتجاري، ترتب له الدولة ليربط الجزائر بعمق إفريقيا.
كان تدفق المسافرين المتوجهين إلى بشار على محطة وهران متواصلا بين لحظة وأخرى للالتحاق بقطار (كوراديا) الذي لم تكن تفصله إلا عشرات الدقائق عن انطلاق رحلته في حدود الساعة العاشرة صباحا، إنها العودة التي يرى فيها العديد من المواطنين تجسيدا لعودة الأمل والحياة بعد توقف لهذا القطار دام بضعة شهور سنة 2023 بفعل اكتساح الزوابع الرملية خط السكة، بعد أن تسببت في توقف القطار أيضا لمدة ستة 6 أشهر (من 15 مارس إلى 20 سبتمبر من سنة 2022). وسبق ذلك توقف لحركة القطار في 2020، أقسى عام اجتاز الجزائريون فيه مرحلة عبور الصحراء نتيجة فيروس كورونا (كوفيد 19).
إنها العودة الموسومة بالتحدي، التي يرى فيها عدد من إطارات قطاع السكك الحديدية تدشينا لآفاق صيرورة مستقبلية ترسي وتمد جسور التنمية الواعدة، بدءا من بشار، مرورا بأدرار وتندوف، وصولا إلى العمق الإفريقي.
أطول خط نقل..
كان مظهر قطار (كوراديا) المستوي على السكة مغريا لمن كانوا يتأهبون لتجريب الرحلة في عمق السهوب والمناطق الصحراوية من وهران إلى سيدي بلعباس، النعامة، وصولا إلى بشار على امتداد نحو 700 كلم، فيما يشبه التحدي في ظل الظروف الطبيعية التي مازالت تضغط بثقلها على خط السكة (زوابع رملية)، معرقلة مسار القطار على مستوى مناطق طابيا، المشرية، رجم دموش، وصولا إلى عين الصفراء، فيما كان تدفق المسافرين لافتا أيضا حتى أن كافة مسؤولي الشركة الوطنية بالمحطة يجمعون على أنه خط مربح يعرف حركة غير مسبوقة، ما يستدعي السهر ليل نهار لأجل استغلاله على نحو فعال.
يقول مدير مصلحة الأمن والسير بالمديرية الجهوية للنقل بالسكك الحديدية لوهران، قدور خميسي محمد، إن "الرهان الاقتصادي لخط النقل الرابط بين وهران وبشار- بشار وهران يكمن في كونه أكبر خط نقل على المستوى الوطني ذي مردودية اقتصادية عالية، ينقل المسافرين من ولايات الشمال إلى الجنوب والعكس، بمعدل يقارب 300 مسافر لكل رحلة.."، قبل أن يضيف: "هذا الخط عليه طلب كبير، سواء من وهران إلى بشار أو من بشار إلى وهران نظرا للسعر التنافسي والتوقيت الملائم للرحلات".
"ولأجل ذلك تطمح الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية إلى مضاعفة رحلات (كوراديا) مستقبلا حتى تصبح بشكل يومي في الاتجاهين..". ولعل ما ساعد على تدفق المسافرين هو "عامل الأمن، كون القطار وسيلة آمنه ما جعلها تستقطب المسافرين ممن يخافون حوادث المرور، فضلا عن العامل السياحي بعد أن أصبحت تاغيت وبني عباس ببشار وجهتين جاذبتين حتى للأجانب وتدعمها في ذلك السياحة الدينية..".
آفاق واعدة..
ويرتقب، في ظل الأجواء الاقتصادية الآخذة في التشكل بالجنوب، أن تكون لخط النقل (وهران- بشار) آفاق واعدة "بعد انطلاق أشغال غار جبيلات قد يصبح هذا الخط هو الأطول على الإطلاق من وهران إلى تندوف 1500 كلم، ومن يقول تندوف، يعني الوصول إلى موريتانيا، بمعني ربط شبكة السكة الحديدية بتندوف بمثيلتها في موريتانيا في إطار إنشاء المناطق التجارية الحرة..".
ولأجل ذلك، يجري حاليا الترتيب والتنسيق بين إطارات من المديرية العامة للنقل بالسكك الحديدية ومسؤولي ولاية بشار لإنشاء مركز استراتيجي لتخزين وتعبئة ونقل البضائع ببشار نحو الشمال، بينها نقل محاصيل القمح المنتجة بأدرار من بشار عبر قطار نقل البضائع، في انتظار نقل حديد غار جبيلات بتندوف إلى الولايات ذاتها، في مؤشر واضح على أن خط وهران- بشار سيتحول إلى شريان اقتصادي واجتماعي وسياحي مستقبلا.
كانت الأجواء في محطات المسافرين بسيدي بلعباس وطابية ومولاي سليسن، بعد ساعة ونصف على رحلة القطار، حيوية كشفت عن الوجه الآخر للديناميكية الاجتماعية التي فتحها القطار وسط ساكنة المناطق الحضرية التي كانت ماثلة في صور تدفق الركاب على نحو لافت، في مؤشر واضح على أن (كوراديا) "هو وسيلة مد الجسور بين منطقة وأخرى وولاية وأخرى لصناعة الحياة وفتح آفاق صيرورة مستقبلية واعدة في مجال التنمية.." يقول عبد القادر (35 عاما)، ابن منطقة طابية، قبل أن يضيف: "هذا الخط الرابط بين وهران وبشار حرر الساكنة من الروتين وفتح آفاقا اجتماعية وتجارية واقتصادية، من جانب أنه يسهم في فتح فرص للعاطلين عن العمل ويعيد تنشيط الحياة مرة أخرى عبر المناطق التي يجتازها خط السكة.. خصوصا أن ساكنة الشريط الجنوبي الغربي يعانون من أزمة النقل في ظل بعد المسافة عن ولايات الشمال، فضلا عن متاعب التنقل على متن الوسائل الأخرى..".
تدفق متزايد ولافت.. !
وينظر نائب مفتش القطارات للناحية الغربية، منور جيلالي، الذي رافقنا على متن القطار إلى بشار، إلى هذه الدينامكية (الإقبال) على أنها في تزايد يقول: "الطلب على القطار يأخذ ريتما تصاعديا من يوم لآخر ويفوق إمكانيات الشركة، ما يستدعي منها توفير عربات إضافية وقطارات ذاتية الدفع مستقبلا، ذلك بعد أن أصبحت للمسافرين ثقة كبيرة في خدمات نقل الشركة في ظل تزايد معدل حوادث المرور عبر الطرقات، إذ يتوفر القطار على تقنيات السلامة الأمنية، وهي تقنية اليقظة في حال وجود طارئ، ما يجعله يتوقف تلقائيا.."، قبل أن يضيف: "هذا الخط هو من مكتسبات الشركة الوطنية، كونه يسهم في فك العزلة وتنمية المناطق العمرانية مثل سيدي بلعباس، طابية، مولاي سليسن، رجم دموش، المشرية، عين الصفراء، المشرية، النعامة، بني ونيف.. كما يسهم في تقليص الفوارق بين مواطني الجنوب والشمال .."
بينما يقدم ابن عين الصفراء، علي مكاوي، وهو مفتش جر، نفسه على أنه شاهد عيان على ما يسميه الدينامكية الجديدة التي ولدها قطار (كوراديا)، قائلا: "وصول قطار كوراديا إلى أقصى جنوب غرب البلاد، مرورا بمناطق سهبية وصحراوية، هو رد الاعتبار إلى المناطق النائية التي عانت كثيرا من الحرمان والعزلة بدليل أن الدولة ماضية على نحو جدي في إيصال السكة الحديدية إلى أقصى نقطة بالجنوب الكبير في إطار توسيع الشبكة العنكبوتية، ما يعد ردا على دعاية بعض الجيران ممن يتحاملون على الجزائر ممن قالوا إنها لا تستغل ثرواتها برشد..".
تفاؤل..
وما لمسناه وسط عدد من مفتشي ومراقبي وسائقي القطار أجواء التفاؤل الآخذة في التشكل ويقولون إنها عودة تبشر بإمكانات العمل الواعدة في المستقبل بالشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية بعد تنصيب وزير النقل يوسف شرفة وتعيين المدير العام للشركة، والدليل على ذلك، حسبهم، المؤشرات الإيجابية للمرحلة الجديدة التي دخلها قطاع النقل بالسكك الحديدية بعد رفع التجميد عن استيراد قطاع الغيار لصيانة عتاد القطارات.
يقول علي مكاوي، مفتش جر، "مند مجيء المدير العام الجديد للشركة تغير كل شيء، بعد أن مسك بزمام الأمور وقام بتطهير إداري مركزيا وعبر المديريات الجهوية والبحث عن مواطن الخلل ومعالجتها... بل أعطى تعليمات صارمة للإطارات وللعمال بالعمل على رفع التحدي أو مغادرة السكك الحديدية، فالجهود في وقت سابق كانت لأجل تقليص مدة التأخر وحاليا نسعى إلى تقليص مدة السفر من وهران إلى بشار ذهابا وإيابا نزولا عند طلبات المسافرين". والتفاؤل ذاته عبر عنه والي بشار غداة إعطاء إشارة انطلاق القطار من بشار إلى وهران، لافتا إلى أن الخط سيسهم في إنعاش التنمية بالجنوب الكبير.
لم يعد كما كان..
لكن الصاعد إلى قطار (كوراديا) ليس كالنازل منه، تقول غنية، ربة بيت، ابنة الباهية وهران، المتجهة إلى بشار "كوراديا لم يعد كما كان، مند استئناف هذا القطار رحلاته مجددا شاهدنا تغيرا في مجال الخدمات، فالوجبة الخفيفة التي كانت تقدم مجانا لم تعد موجودة، بل حتى مقهى القطار لا يوفر الشاي ولا القهوة ماعدا الماء وبعض المشروبات، بل وغابت النظافة أيضا من القطار، بل حتى الجرائد لم تعد تقدم للمسافر كما كان معمولا به.."، قبل أن تضيف: "كوراديا ينفرد بعدة ميزات عن باقي القطارات العادية، منها سرعته كما يضمن لك نوعا من الرفاهية ولاسيما عندما تحجز مكانك في الدرجة الأولى، كما يتوفر على مبرد ويتيح لك أيضا شحن هاتفك.. لكن هنالك فرق، ففي بداية رحلاته بين وهران وبشار في 2018 كان يستجيب لمعايير الرفاهية والراحة والأمن والسرعة أحسن مما هو عليه اليوم.."، فيما يشير آخرون متجهون إلى المشرية إلى أن الوجبة التي كانوا يشترونها من مطعم أو مقهى القطار سعرها مرتفع للغاية، بل ونلمس وجود فرق شاسع بين السعر المرتفع والوجبة المتواضعة.
ومع ذلك، لا يتردد أعوان القطار في الدفاع عن النظام الداخلي لـ(كوراديا) باستماتة ويقولون إن دوريات المراقبة لا تتوقف لتجسيد الانضباط حرصا على راحة المسافر، بدءا من منع التدخين ومحاربة التهريب بكافة أشكاله بتفتيش بعض البضائع والسلع ومراقبة أعمال مشبوهة كالسرقة وأخرى تخريبية.. وأفعال طائشة..الخ.
وتقدم الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية هذا القطار (كوراديا) على أنه قطار هجين يشتغل بالديازال والطاقة الكهربائية (له سرعة مفترضة مرشحة مستقبلا لتصل 160 كلم/سا)، طوله 110م، يتكون من 6 قاطرات تحوي 254 مقعدا، منها 60 للدرجة الأولى و194 للدرجة الثانية، به 4 مراحيض، وهو قطار ذاتي الدفع، له جهاز التحكم عن بعد (RTMS)، لا يقل سعر الرحلة من وهران إلى بشار للدرجة الأولى عن 2705 دج و2252 للدرجة الثانية (رحلة عادية)، يتميز بتكيفه مع الظروف المناخية للمناطق السهبية والصحراوية وهو من صنع الشركة الفرنسية (ألستوم)، ولو أن استغلال هذا النوع من القطارات السريعة، استنادا لبعض العارفين بمجال السكك الحديدية، يتطلب إزالة الممرات المحروسة في ظل غياب ممرات علوية بعدة مناطق بهدف التقليص من فترات توقف القطار، المتسببة في تأخر وصوله إلى وجهته في الوقت المحدد.
الجفاف يعسكر بالمنطقة..
يواصل (كوراديا) رحلته بين ولاية سيدي بلعباس ومنطقة رجم دموش بريتم 80 كلم/سا، في شريط تتخلله المناظر السهبية التي تحولت في بضع سنوات إلى مناطق قاحلة وأخرى عسكرت بها كثبان رملية بعد أن استولى عليها الجفاف، في مؤشر واضح على أنها مناطق مهددة بالتصحر في غضون السنوات المقبلة. لكن الوصول إلى رجم دموش، بالنسبة إلى طاقم القطار من سائقين ومفتشين ومراقبين، هو الوصول إلى أخطر نقطة سوداء يجتازها القطار، والأمر نفسه بالنسبة للمسافرين الذين جربوا الرحلة في وقت سابق مرورا بهذا المقطع.
فقبل الوصول إلى النقطة الكيلومترية 115 pk، شرع سائق القطار لبيوض الحاج بقمرة القيادة في خفض سرعة القطار رويدا رويدا لتصل إلى 30 و20 كلم/سا، قبل أن توشك حركة القطار على التوقف نهائيا بالنقطة 115. ما وقفنا عليه هو تشكل شبه كثبان رملية على حافتي السكة الحديدية على طول نحو 300م، فيما غطت الرمال مسافة هامة من السكة، في ظل هبوب رياح متوسطة القوة، مساعدة على نقل خطر تشكل الرمال على مساحة هامة من خط السكة، فيما كانت حركة القطار واحتكاكه بالرمال تخلف لغطا وضجيجا مقلقا، إنه الاحتكاك الذي قد يتسبب في انحراف القطار.
يقول السائق لبيوض الحاج إن النقطة الكيلومترية 115 هي أخطر النقاط السوداء، "بل أنا أعتبر المسافة الممتدة من رجم دموش (سيدي بلعباس) إلى المشرية (النعامة) على مسافة 140 كلم كلها نقطة سوداء، فلما تهب الرياح يتغطى مسار السكة كله عبر هذه المسافة بالرمال، ما يتسبب في إلحاق أضرار بالقطار ما يقود إلى تأخر الرحلة.."، قبل أن يضيف: "في البداية كانت لدينا نقطتان سوداويتان 115 و173 في بداية 2018، إلا أن المشكل ازداد تفاقما بشكل مقلق إلى غاية اليوم في ظل شح المطر وسيطرة الجفاف..".
الرمال.. ظاهرة جديدة!
مشكل اكتساح الزوابع الرملية خط السكة أصبح هاجسا يضغط بثقله على الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية، إذ وجدت نفسها من جهة مطالبة بالرد على تطلعات وانشغالات المسافرين على هذا الخط المربح (وهران-بشار) ذهابا وإيابا وعدم توقيفه، ومن جهة أخرى الحفاظ على عتاد القطار في ظل شح قطع الغيار، إنه التحدي الذي راحت الشركة تحشد له كل الجهود والإمكانيات لأجل إبقاء الأمل والحياة متواصلين رغم الريح والإعصار في عمق السهوب والصحراء.
ففي محطة رجم دموش صعد ثلاثة أعوان مجهزون بآلات شفط الرمال، عهدت لهم مهمة يومية، هي تحرير السكة من الرمال، فيما يدعم العملية بشكل يومي قطار كسح الرمال، الذي ينطلق من رجم دموش إلى المشرية (140 كلم) ومن المشرية إلى النعامة. واللافت على طول هذه النقاط السوداء اختفاء المساحات الخضراء على جانبي السكة التي كانت توقف زحف الرمال، في مؤشر واضح على خطر الرعي العشوائي وظاهرة الجفاف التي راحت تميز المنطقة مند بضع سنوات، في وقت يشير شهود عيان من المشرية وعين الصفراء إلى مغادرة مربي الماشية (البدو الرحل) خيمهم منذ مدة طويلة.
يقول ابن المشرية، مصطفى بوزيان، رئيس إقامة مكلف بتسيير العمال: "مشكل الرمال ممتد حتى عين الصفراء، ففي صبيحة اليوم الأربعاء قمنا بنزع الرمال عن طريق قطار كسح الرمال، بدأنا من المشرية إلى عين الصفراء على مسافة 45 كلم، بينما قمنا أمس الثلاثاء بإزاحة الرمال على طول المسافة الممتدة من المشرية إلى رجم دموش..".
ولتكدس الرمال على خط السكة وقع وأثر كبير على المسافرين وعلى الاقتصاد الوطني، إذ أن أي عطل للقطار يعرض حياة الركاب للخطر، من رضع وأطفال وشيوخ ونساء حوامل ومسنين.. على اعتبار غياب مسالك تربط الطريق الولائي بخط السكة وبعدها عنه، كما أن العطب ذاته قد يتسبب في تعطيل إمدادات ولايات الجنوب الغربي بالوقود والسلع والبضائع.
فمن ولاية وهران إلى بلدية البيوض بدائرة المشرية سجل (كوراديا) تأخرا، قدر من قبل القائمين على تسييره بساعة و10 دقائق، نتيجة حالات غير عادية أرغمته على التزام سرعة تتراوح بين 50 و40 و20 كلم/سا برؤية متدنية، نتيجة تطاير الرمال وأيضا بسبب التوقف عند الممرات المحروسة.
جهود لتحرير السكة..
وفي ردها على استفسارات بعض أعضاء مجلس الأمة ونواب المجلس الشعبي الوطني بشأن توقف رحلات (كوراديا) من وهران إلى بشار منذ نهاية شهر فيفري 2023، قبل أن تعيد إطلاقها في جويلية الماضي، أوضحت الشركة الوطنية للنقل بالسكك الحديدية على لسان مدير الإعلام بالشركة، جمال شعلال، "أنه بات من الصعب أكثر فأكثر مكافحة ظاهرة الرمال المتحركة وتقدم الكثبان الرملية نحو السكة الحديدية من أجل ضمان الاستغلال الطبيعي للخطوط التي تعبر المناطق القاحلة.."، قبل أن يضيف: "إن الشركة تتخذ في كل مرة الإجراءات اللازمة قصد التكفل بالمسافرين وعدم تركهم عالقين يعانون من نتائج هذه التوقفات، بالرغم من بعد المسافة بين خط السكة والطريق الوطني أحيانا..".
وبين الإجراءات المتخذة حاليا يقول المتحدث: "نحن بصدد إنجاز قواعد لوجيستية على مستوى النقاط السوداء في هذا الخط، منهم عمال مجندون للهياكل القاعدية وآليات الأشغال العمومية للمساعدة في رفع الرمال ولها مهمتان: الأولى هي مهمة التدخل في حالة هبوب عواصف رملية استثنائية حتى تكون قريبة من تلك المواقع وقت التدخل السريع، فيما تكمن الثانية في حفر خنادق ورفع الرمال القريبة من خط السكة على النقاط السوداء..". وكانت الشركة أطلقت في وقت سابق مناقصة دولية لشراء عتاد متخصص في رفع وشفط الرمال عن خطوط السكة.
الحل هو السد الأخضر..
ولا يزال الاتصال جاريا مع شركات متخصصة ومراكز بحث وطنية قصد تطوير حلول تقنية للتعامل مع الظاهرة، بينها التواصل والتنسيق مع والي النعامة لأجل اتخاذ الإجراءات اللازمة لأجل محاربة ظاهرة اكتساح الرمال لخط السكة بمقاطع النعامة، فضلا عن التواصل مع مصالح وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ولاسيما مع خبراء من مركز البحث العلمي والتقني حول المناطق القاحلة لبسكرة بهدف إيجاد حلول فعلية لظاهرة زحف الرمال. كما تم استضافة خبراء من الشركة الصينية لبناء السكك الحديدية (cRcc) لعرض تجربتهم في مجال إيقاف زحف الرمال.
ومع ذلك، يسود إجماع وسط مفتشي القطار ومراقبيه وسائقيه على أن الحل النهائي لظاهرة الزوابع الرملية التي باتت تهدد خط السكة بالتوقف عن العمل هو رد الاعتبار للسد الأخضر بالشروع فورا في عملية تشجير الإقليم المحتضن للنقاط السوداء، فيما يرى مواطنون من أبناء بشار أن الحل يكمن في تحويل خط السكة، من جانب إعادة إحياء خط المحمدية- سعيدة وصولا إلى بشار، أي رد الاعتبار لما يسمى بخط البحر المتوسط – النيجر كما تم التخطيط له خلال الحقبة الاستعمارية.
ممرات عشوائية.. !
لكن أن تجرب الرحلة على متن (كوراديا) من سيدي بلعباس إلى بشار، وسط السهوب والمناطق الصحراوية، يعني أيضا تجربة الوقوف على الملهاة والمأساة لجوانب الحياة التي لا يحترم فيها الفضاء الخاص بالقطار، إذ أن ما لحظناه إقدام من هب ودب على إنجاز معابر عشوائية تقطع خط السكة دون ترخيص، ما يتسبب في حوادث مميتة ويؤخر رحلات القطار. يقول شهود عيان من النعامة وعين الصفراء إن العملية يقوم بها (بدو رحل) وبعض المستغلين لقطع فلاحية، بل وبرزت مظاهر تشييد منازل وأكواخ بشكل غير قانوني بالقرب من خط السكة على نحو ما رأيناه بسيدي بلعباس، أرزيو، غليزان، السانية.. الخ.
مقابل ذلك، لم نلحظ أشغالا لإنجاز ممرات علوية لتسهيل تنقل مربي المواشي، مع أنه كان يفترض إنجاز نحو 12 ممرا علويا بولاية النعامة، تشمل 5 بلديات، لأجل تأمين سلامة السكة وإشاعة أجواء السلامة المرورية لأصحاب المركبات والراجلين وفك العزلة عن المناطق السهبية وتجمعات البدو الرحل.
مع ذلك يتساءل مواطنون ضمن رحلة وهران بشار، عارفون بميدان السكة الحديدية، عن لغز حالات الاهتزاز الموجودة بالسكة (secousses) عبر مقاطع تنخفض فيها سرعة القطار إلى 40 و50 كلم/سا رغم خلو السكة من الرمال، ويقولون إنه كان يفترض إدخال تحسينات على سكة القطار حتى تستجيب للمعايير المخصصة لـ(كوراديا) المعروف بسرعته ببعض البلدان التي لا تقل عن 160 كلم، خصوصا أنه ينفرد بتكنولوجيا عالية، بينها نظام التحكم عن بعد ونظام الكبح الميكانيكي والكهربائي والمغناطيسي ولو أن نوعية السكة تبقى من اختصاص الوكالة الوطنية للدراسات ومتابعة تنفيذ الاستثمارات في السكك الحديدية.
كوراديا.. مصالحة مع الصحراء
في غمرة أجواء الرحلة التي لم تكن سهلة بالنسبة للبعض بعد أن شارف القطار على الدخول إلى بني ونيف الواقعة على خط التماس الحدودي مع المغرب بعد مرور أزيد من 8 ساعات على الرحلة، يسأل عبد القادر، ابن بشار يدرس بجامعة وهران، صديقه الذي التحق بالقطار في محطة جنين بورزق: "هل عرفت كيف يسهم (كوراديا) بربط الشمال بالجنوب؟"، قبل أن يهم بالإجابة: "الولايات الواقعة بالجنوب (الصحراء) ظلت محافظة على صورة (الولاية البعيدة) في الذاكرة الجماعية لساكنة ولايات الشمال منذ الاستقلال إلى غاية اليوم، وهي الصورة التي تم استثمارها لتشجيع تمركز الساكنة وباقي الاستثمارات والمصالح في مناطق الشمال على نحو خلق اختلالات غير مسبوقة مهددة للأمن القومي".
لقد بدا قطار (كوراديا)، وهو يوشك على الوصول إلى آخر محطة له ببشار تحت جنح الظلام (السابعة والنصف مساء)، بعد أن اجتاز مناطق سهبية وأخرى صحراء قاحلة، متحديا عوامل الطبيعة (زوابع رملية)، كواحد من إمكانات المستقبل الفعالة لمد الجسور بين ساكنة الشمال وولايات الجنوب، في خطوة لمصالحة ساكنة الشمال مع صحراء بلدهم وكسر الصورة النمطية التقليدية عنها حتى تصبح ولايات الجنوب خالقة لفرص العمل لملايين الشباب العالقين في (منطقة الراحة).
"نطالب بتشغيل خط سعيدة - المحمدية.."
لكن مد الجسور بين ولايات الشمال والجنوب، حسب الأستاذ بن علي محمد، ابن بشار الذي كان متوجها إلى وهران رفقة ثلاثة من زملائه في رحلة الإياب، يتم بتفعيل واستثمار رحلات القطار على نحو جدي "كوراديا يمثل قفزة نوعية في أكبر خط نقل عبر الوطن لكنه يعرف نقائص، بينها اختيار المسلك الجديد عبر المشرية سيدي بلعباس، الذي بات مهددا بالتوقف نتيجة الزوابع الرملية، وهذا عكس الحال الذي كان عليه يوم كان يمر عبر سعيدة – المحمدية.."، قبل أن يضيف: "نحن نأمل أن تعيد الدولة النظر في هذا الخط وتعيد برمجة الرحلات على الخط القديم، سعيدة- المحمدية حتى يكون للمواطن حرية اختيار وجهات أخرى كالعاصمة أو شرق البلاد أو غربها.. فالتأخر الذي أصبح يعرفه القطار لأسباب متعددة أدى إلى عزوف مواطنين عنه، مفضلين وسائل أخرى.. ".
عمار تو هو السبب.. !
بينما يشير زميله أحمد كيساري، وهو إطار متقاعد، إلى أن "تغيير مسار السكة الذي أصبح يمر على المشرية – سيدي بلعباس كان وراءه عمار تو، وزير النقل السابق، نزولا عند مطالب أبناء مدينته..". وأضاف: "القطار ليس بجديد على سكان بشار، نحن نحتفظ في ذاكرتنا بتاريخ السكة الحديدية في الجنوب. فبشار عرفت النقل بالقطار في خمسينيات القرن الماضي وكان مبرمجا من البحر المتوسط إلى النيجر ووصل إلى مدينة العبادلة التي تبعد 100 كلم جنوبا عن بشار وتوقف في سبعينيات القرن الماضي..". ويتساءل: "هل يعقل أنه لا توجد على امتداد نحو 700 كلم من بشار إلى وهران نقطة استراحة للمسافر؟ بل لماذا تم توقيف رحلات القطار خلال موسم الاصطياف..؟".
القناعة التي تسكن بن علي محمد وأحمد كيساري هي أنه كان يفترض أن يتم استغلال (كوراديا) على نحو استراتيجي للاستثمار في التدفق الكبير للساكنة نحو ولايات الشمال بمعدل يقارب 300 حافلة يوميا، ذلك في ظل العلاقات الاجتماعية الوطيدة بين ساكنة بشار ووهران. ففي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي كانت بشار ولاية سياحية بفضل مواقعها المتواجدة بتاغيت وبني عباس والقنادسة إلى جانب قصور الشمال.
رشق القطار متواصل..
وفيما يعتبر الكاتب والباحث عبد الله حمادي الإدريسي، الذي كان متوجها من بشار إلى وهران، أن خط بشار – وهران هو أمل ساكنة مناطق الجنوب الغربي، إلا أنه قال: "من غير المعقول ألا أجد فنجان قهوة بمقهى القطار وأنا أقطع مسافة 700 كلم.."، لكنه سرعان ما عاد للتساؤل عن سبب عدم تجنيد أئمة المساجد والمدارس لأجل توعية وتحسيس التلاميذ وساكنة المناطق التي يجتازها القطار بجرم رشق القطار بالحجارة، فهو الذي يقدم نفسه على أنه شاهد عيان على مهاجمة القطار بالحجارة بمنطقة طابية بسيدي بلعباس "بل لحسن الحظ أيضا أننا لم نصب بجروح بمنطقة سيدي عابد ببلدية واد رهيو بالشلف بعد أن تم رشق القطار بالحجارة مرتين على التوالي في رحلته من الجزائر إلى وهران". ويقدر سعر الزجاج الأمامي للقطار، حسب محمد مرزوق، رئيس موقع مصلحة حماية أملاك الدولة بالشركة، بـ75 مليون سنتيم، أما النافذة الكبيرة فيقدر سعرها بـ32 مليون والصغيرة 18 مليون سنتيم.