حاورته: لامية أورتيلان
يشتغل الفنان التشكيلي رابح سوسة، حاليا، على مشروع إحياء فن صخري عريق وهو "فن نازجر"، الذي يخص الجنوب الجزائري "طاسيلي والأهڤار" والذي يعود إلى 4000 سنة. في هذا الحوار مع "الخبر" يحدثنا سوسة عن تفاصيل هذا المشروع وعن المعرض الذي يحضر له بخصوص هذا الفن، كما يعرفنا بطبيعة هذا الفن وما أحدثه الاستعمار الفرنسي عليه من تشويه وطمس في هويته، كما يتكلم عن هدفه من هذا المشروع الذي يأمل أن يلقى جهة داعمة أو متبنية له.
وأكد سوسة أن الهدف من هذا المشروع ليس مجرد تقليد النقوش القديمة، بل استئناف المسيرة الفنية التي توقفت بسبب التصحر، وقال: "نحن نؤمن بأن الفن الصخري لم يكن فقط رسومات على الجدران، بل كان نظاما رمزيا متكاملا".
من هو سوسة رابح؟
هو فنان تشكيلي، وقد كان توجهي في الفن التشكيلي المدرسة الواقعية برسم بورتريهات ومناظر طبيعية ولوحات مستوحاة من التراث المحلي الجزائري كرسم اللباس التقليدي والثورة ومواضيع مختلفة.
تشتغل حاليا على مشروع إعادة إحياء فن صخري عريق وهو "فن نازجر"، حدثنا عن هذا المشروع ومضمونه؟
مشروع "فن نازجر" هو محاولة فنية وثقافية شاملة لإعادة إحياء روح الفن الصخري القديم الذي ازدهر في جنوب الجزائر، وتحديدا في منطقة الطاسيلي منذ أكثر من 4000 سنة. الاسم "نازجر" مشتق من اسم المنطقة الذي يدل على الأصالة والمكان، وهو يشير إلى الرؤية الترابية التي ننطلق منها. الهدف من هذا المشروع ليس مجرد تقليد النقوش القديمة، بل استئناف المسيرة الفنية التي توقفت بسبب التصحر. نحن نؤمن بأن الفن الصخري لم يكن فقط رسومات على الجدران، بل كان نظاما رمزيا متكاملا.
في "نازجر"، نعيد صياغة هذه الرؤية من خلال ما نسميه "جماليات ما بعد المركز"، أي أننا لا نعيد إنتاج ما صنعه الغرب في الحداثة أو ما بعد الحداثة، بل نعيد بناء الفن من نقطة انقطاعه المحلية ونستأنف الرواية البصرية من حيث توقف الفن الصخري.
وما هو "فن نازجر"؟
هو تيار جزائري حديث يبنى على رموز ضاربة في أعماق التاريخ، مستلهمة من:
النقوش الصخرية، البيئة الصحراوية والذاكرة الجماعية لأمازيغ المنطقة، لكنه لا يكررها بل يعيد اختراعها ضمن بنية تشكيلية جديدة. يهدف هذا الفن ليس فقط إلى إنتاج أعمال فنية، بل صياغة هوية بصرية مستقلة ترفض الانصياع لنماذج المدارس الغربية. في زمن السرعة البصرية والتشابه الشكلي، يصر "فن نازجر" على خلق الاختلاف وإحياء البصمة.
"فن نازجر" ليس مجرد تيار فني جديد في الجزائر، بل هو مشروع حضاري بصري يطمح لإعادة وصل ما انقطع في ذاكرة المنطقة. هو فن ينطلق من حيث توقف الفن الصخري في منطقة طاسيلي نازجر قبل حوالي 4000 سنة، حين فرض التصحر صمتا طويلا على الجدران التي كانت تنبض بالحياة والحكاية. اليوم، يعود نازجر لا كنسخة من الماضي، بل كوريث شرعي يحوّل الانقطاع إلى بداية جديدة ويجعل من الصحراء فضاء لتخليق المعنى الجمالي والرمزي.
كيف أثر الاستعمار الفرنسي على هذا الفن وهوية منطقة "طاسيلي نازجر"؟
لا يمكن الحديث عن نازجر دون الإشارة إلى الأثر العميق الذي خلفه الاستعمار الفرنسي على الهوية البصرية والثقافية للجزائر. لقد جاء الاستعمار الفرنسي لا ليحتل الأرض فقط، بل ليمحو الرموز ويبدد اللغة ويغلق الفم البصري الذي نطقت به جدران طاسيلي.. لقد عمدت آلة الاستعمار إلى طمس الرموز وتبديل المعايير الجمالية وتهميش الفنون المحلية لصالح نموذج أوروبي مهيمن فطمست الجداريات ونظّر للإنسان الجزائري باعتباره عديم الجمال والخيال. هذا الاستلاب لم يكن ماديا فقط، بل طال العمق الرمزي للأفراد والجماعات، ما جعل الفنان الجزائري، في كثير من الحالات، رهينا لعين مستعارة لا ترى العالم من زاويته الخاصة.
في هذا السياق، يُمثّل "فن نازجر" استعادة عنيدة لهذه الذات المصادرة. يأتي "فن نازجر" كحركة جمالية تحررية، تعيد تعريف الرؤية وتؤسس لجماليات ما بعد المركز، حيث لا تكون باريس أو روما هي المرجع، بل جبال طاسيلي وحجارة الأهڤار وصمت الرمال المأهول بالذاكرة، لا عبر العودة إلى الماضي كنوستالجيا بل عبر تفعيله كمصدر بصري ومفاهيمي حيّ.
لماذا توجهت إلى هذا الفن تحديدا، "فن نازجر"؟
في الحقيقة، لم يكن هذا التوجه خيارا بقدر ما كان ضرورة فنية وفكرية لأن كل ما يطرح اليوم في الساحة التشكيلية، سواء تحت راية الحداثة، التجريد، التكعيب أو المعاصرة، يبقى في جوهره محاولات داخل قوالب جمالية غربية، حتى وإن بدا مختلفا على السطح لهذه التجارب، رغم قيمتها التقنية أحيانا، فهو لا يعكس هوية بصرية جزائرية حقيقية. إنها أساليب مستعارة تنتمي إلى سياقات ثقافية وفكرية أخرى. من هنا جاء مشروع "فن نازجر"، ليس كرفض للغرب، بل كبناء بديل ينطلق من الجذور، يؤسس لهوية بصرية فنية جزائرية ومن الحاجة إلى استعادة المسار البصري الذي انقطع منذ آلاف السنين.
"فن نازجر" لا يعتمد على استعارة جاهزة، بل يؤسس لمنظور فني وفلسفي محلي، ينبثق من الذاكرة الصخرية، من الرموز الأولى ومن الروح الترابية التي سكنت هذه الأرض قبل أن يُفرض عليها النموذج الجمالي الاستعماري، بالإضافة إلى الرموز الأمازيغية.
في مسارك كفنان على ماذا اعتمدت لجعل هذا الفن مستقلا في الأسلوب والطرح؟
لم أعتمد على المدارس الأكاديمية الغربية، بل انطلقت من النقوش والجداريات الصخرية التي تركها الإنسان الأول في منطقة طاسيلي والأهڤار، التي تمثل بدايات الفن البشري في العالم، هي لغة بصرية صافية، لم تشوّه بسوق الفن. حاولت أن أُعيد تشغيل هذه الذاكرة بصريا كمن يعيد تشغيل آلة توقفت عن الحركة منذ آلاف السنين، ولم أستلهم الرموز الجاهزة بل وظفت الرموز بأسلوب نازجر (الحلزون، الخط المتكسر، العين اللولبية، نقطة التقاء الأرواح..)، الذي يرتبط بالعناصر الأولى للحياة ويفكك المنظور الأوروبي للجسد والزمن.
هل تعتقد أن "فن نازجر"، بعد التأسيس البصري، بات بحاجة إلى دعم مؤسساتي ومعرفي؟ ومن هم الفاعلون الذين ترى أنهم ضروريون في هذه المرحلة؟
الآن هذا المشروع يبحث عن التبني من الجهات الوصية إذ يحتاج إلى المتخصصين في الفلسفة لتجسيد المفهوم الفلسفي لنازجر من المنظور المحلي وباحثين أثريين لوضع قاموس موحد للرموز المحلية.
في رأيك ما هو أخطر شيء قد يشوه "فن نازجر"؟
أخطر ما يمكن أن يشوه "فن نازجر" هو تحويله إلى زخرفة شكلية أو توظيف رموزه خارج سياقها الفلسفي. عندما ينتزع هذا الفن من جذوره ويقدم كـ"زينة تراثية" أو كـ"أسلوب بصري عصري أو كفن فولكلوري" دون فهم خلفيته الرمزية والروحية، فإنه يفقد معناه بالكامل.
"فن نازجر" ليس مجرد أشكال صخرية أو خطوط بدائية، بل هو نظام رمزي متكامل، يحمل رؤية للعالم، للزمن وللجسد، ويستند إلى فلسفة محلية تعيد الاعتبار للذاكرة الجماعية المنسية. لهذا السبب وضعنا منذ البداية معايير وقوانين فنية صارمة، لا تسمح بتشويهه مهما طال الزمن.
هل لديك أعمال فنية جاهزة أو كتاب يقدم هذا الفن للجمهور؟
نعم سأقدم في الأيام القليلة القادمة معرضا فنيا لمجموعة من اللوحات من أحجام مختلفة بأسلوب "نازجر" كمحاولة للتعريف به وتقديمه للجمهور.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال