ثقافة

مسرحية "جنازة أيوب".. رسالة أقوى من قدرة الحوار على حملها

من إخراج أحمد رزاڨ وإنتاج المسرح الوطني الجزائري.

  • 547
  • 3:13 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

تقدم مسرحية "جنازة أيوب" للمسرح الوطني الجزائري، إخراج أحمد رزاڨ، التي قدمت في عرضين متتاليين يومي الجمعة والسبت الماضيين، إحدى التجارب الدرامية اللافتة على خشبة المسرح الوطني، إذ تستثمر المأساة الإنسانية في صياغة خطاب مسرحي يتأرجح بين الدراما السوداء والسخرية المبطنة، ليعاد من خلالها طرح سؤال العلاقات الإنسانية وسط مجتمع مثقل بالتناقضات.

 يعتمد النص على غياب البطل وحضوره في آن واحد، فأيوب، الغائب جسدا، يظل القوة المحركة لكل حدث وتوتر درامي. هذا البناء يمنح العرض عمقه النقدي، إذ تتحول "الجنازة" من لحظة حزن إلى منصة تكشف هشاشة العلاقات، وتفضح الخطابات المزدوجة التي يختبئ خلفها الأفراد حين يتعلق الأمر بالمصلحة أو التظاهر بالوفاء.

 النص لا يقدم قصة عادية عن موت رجل متزوج بأربع نساء اسمه أيوب، بل يصوغ فضاء وجوديا تُكتشف فيه الشخصيات كما لو أنها تجبر على خلع الأقنعة.

 أيوب هو الغائب الذي يكشف الحاضرين وهو المحرك الأساسي لكل الأحداث، موته ليست نهاية بل بداية تكشف المستور، يمثل الضمير الذي صمت أو القيمة التي انكسرت، يظهر كحضور رمزي كلما تحدث الآخرون عنه، كشفوا حقيقتهم هم، لا حقيقته هو، فهو الشخصية التي لا تحتاج أن تتكلم كي تقول كل شيء. لا تقدم "جنازة أيوب" شخصيات تبحث عن الحزن بقدر ما تبحث عن مبررات وجودها في عالم يتغير بسرعة ولا يمنح الفرد الوقت للتصالح مع نفسه.

 الشخصيات في المسرحية ليست ثابتة بل تتحرك بين الظل والنور، بين الحقيقة والتمثيل، بين الوفاء والمصلحة، ومن خلال هذا التوتر ينجح العرض إلى حد بعيد في تحويل الجنازة إلى كشف للحقيقة. رغم قوة الفكرة وغنى الرموز التي اشتغل عليها العرض، فإن الحوار، برأيي، لم يكن بعمق ونقل الرسالة التي أراد المخرج إيصالها، فالنص بدا أحيانا أقل كثافة مما توحي به الشخصيات، وأخف من حجم الأسئلة الوجودية التي يثيرها العمل.

 هذا التفاوت بين قوة الفكرة وخشونة الحوار جعل بعض اللحظات تنزلق نحو المباشر بدل أن تكون مساحة للتأمل أو التصعيد الدرامي. كما أن تعدد وتشعب المواضيع التي حاول العرض الخوض فيها ( قضايا المرأة، العلاقات الاجتماعية، الميراث، النفاق الاجتماعي) وإن كانت مترابطة في أصلها، جعلت النص يتوزع على جبهات كثيرة في وقت واحد.

هذا التشبث حد من إمكانية موضوع واحد وبنائه كقضية مركزية، وهي نقطة مهمة في عمل يريد أن يقدم موقفا أخلاقيا وفلسفيا واضحا.

 في النهاية نقول إن عرض "جنازة أيوب" رؤية إخراجية جمالية طموحة، تعتمد على الصورة المسرحية، والسينوغرافيا والموسيقى لبناء عالم رمزي كثيف يحاول مقاربة موضوع إنساني وجودي يرتبط بالألم، والصبر، وتفكك الروابط العائلية، ورغم قوة البنية البصرية، إلا أن العمل يكشف أيضا جملة من الاختلالات الدراماتولوجية التي أثرت على قوة الرسالة التي أراد المخرج إيصالها.

 فكثافة الشخصيات النسائية لا يقابلها مبرر درامي، رغم أن هذا الاختيار يمكن أن يقرأ كصورة رمزية للرغبات، والأحمال الاجتماعية، والضغوط العائلية التي تحاصر أيوب، إلا أن العمل لم يوفر ما يبرر وجود هذا الكم من الشخصيات على المستوى الدرامي، فباستثناء توظيفهن في المشاهد الجماعية ضمن التصميم الحركي، ظل حضورهن أقرب إلى تكرار دلالي لا يضيف جديدا، وكان من الممكن للمخرج أن يختصر العدد دون أن يخسر البعد الرمزي، بل ربما كان سيكسب وضوحا أكبر في العلاقات والصراعات.

 ملاحظة أخرى تتعلق بالانتقال بين المشاهد، حيث جاءت ناقصة وغير سلسة، ما خلق انطباعا بأن العرض يتكون من مشاهد مفصولة أو تلتصق ببعضها دون أن تنصهر في خيط سردي محكم.

 أما الحوار، في تقديري، أضعف من مستوى الرسالة، وأقل قدرة على توليد توتر درامي أو بناء مسارات نفسية واضحة للشخصيات. وتأتي نهاية العرض وكأنها جاءت لإغلاق المَشاهد لا لإعطاء خلاصة درامية أو لحظة ذروة تليق بالمسار الذي حاول العمل بناءه.

 رغم بعض المآخذ، يظل العرض غنيا من الناحية الفنية، سينوغرافيا مدروسة، موسيقى موظفة بذكاء، إضاءة تخلق توترات جميلة، التصميم الحركي أعطى نفسا بصريا معاصرا.

لكن هذا التفوق البصري لم يرافقه نص قوي، ولا بناء درامي متماسك، إذ بدا العرض أحيانا كأنه لوحات جميلة بلا مركز سردي صلب، ليبقى العرض طموحا بصريا وجماليا، يثبت قدرة المسرح الجزائري على خوض تجارب فنية تعتمد على الصورة الحية كعنصر أساسي للمعنى.

فهل يمكن للمسرح أن يعتمد على الجماليات فقط دون سند درامي قوي؟ "جنازة أيوب" تمنح إجابة جزئية.. الجمال قد يبهر، لكنه لا يكفي وحده لصناعة الأثر.