اسلاميات

أهمية المسجد وأثره في الحياة الاجتماعية

المساجد بيوت الله وأحب الأماكن إليه؛ منها شعّ نور الهداية وبزغ فجر الدعوة

  • 12
  • 3:27 دقيقة
الدكتور عبدالحق حميش
الدكتور عبدالحق حميش

المساجد بيوت الله وأحب الأماكن إليه؛ منها شعّ نور الهداية وبزغ فجر الدعوة، وفيها تزكى الأنفس وتقر الأعين وتهدأ القلوب وترتاح الأرواح. ولهذا أمر الله جل جلاله بإقامتها وعمارتها وشهد لأهلها بالإيمان والهداية ووصفهم بوصف الرجولة؛ فقال: (في بيوت أذن الله أن تُرفع ويُذكَر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والْآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار)، وقال: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الْآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين).

إن المساجد في صدر الإسلام وفي القرون التي تلته تولت خدمات عديدة، بالإضافة إلى تأدية الشعائر التعبدية، فكانت تؤدي دور أرقى الجامعات من ناحية تخريج العلماء الأفذاذ، والقادة المحنكين، والكفاءات، وأصحاب المهن المخلصين.
لقد كانت في عهد السلف الصالح منارات تضيء الدنيا وتُصلح المجتمعات، وتُخرّج الرجال وتربي الأجيال، وتزودهم بالغذاء الروحي والزاد الإيماني، وتُكسبهم الأخلاق الحميدة والتوجيهات السديدة، وتزيل عنهم أدران الجاهلية ونزواتها الشريرة، ولم يقتصر دورها - كما هو الواقع اليوم - على أداء الصلاة وخطبة الجمعة وتلاوة القرآن؛ وإنما كان لها دور إيجابي فعّال في كل نواحي الحياة؛ التعبدية والتربوية والتعليمية والسياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية... فأخرجت قادة الدنيا الذين غيروا وجه التاريخ، وقادوا البشر وسادوا الأمم بعد أن كانوا بدوًا رعاة للغنم.

لقد أسست المساجد على تقوى الله ورضوانه وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم لذا علينا أن نحيي دورها المنشود، ونسعى جاهدين بكل ما أوتينا من قوة لكي نعيد للمسجد رسالته السامية، ومكانته العالية التي كان عليها في صدر الإسلام؛ ليؤدي في عصرنا نفس الدور الذي أداه في عصر الرعيل الأول في معالجة ما في المجتمع من أدواء وعيوب، واستئصال لكل خلق ذميم حتى يعيش المجتمع المسلم نقيًّا راشداً مُرِبياً: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقِم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشَاءِ والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون).

فالمسجد مركز علم ودعوة لا يقف دَوْرُه عند الوعظ والفتوى والحل والحُرمة - مع شرف هذا - وإنما كان له دورٌ كبير أيضا في تصحيح الأخطاء، ومعالجة التصرفات المشينة، وتعليم الناس الصواب، وإرشاد المجتمع إلى السبيل الأمثل والطريق الأقوم.
كذلك يجب أن يقوم المسجد بتوعية المجتمع وتثقيفه وتعليمه من خلال خطبة الجمعة وحِلق الذكر، وتقديم الفتاوى والاستشارات وتحديد المواقف إزاء النوازل والمستجدات؛ مما يساهم في توعية الناس وتثقيفهم في أمور دينهم ودنياهم.

فأهل الحي الواحد يجتمعون في المسجد كل يوم خمس مرات، يؤدون الصلاة جماعة وتسود بينهم روح الود والمحبة والتقارب والألفة، إذ تتكرر رؤية بعضهم لبعض والتقاؤهم في مكان واحد جنبا إلى جنب في صف واحد، مما يعمق الاتحاد والإخاء بينهم ويجعل منهم قوة متماسكة ووحدة متآلفة؛ فيقابل المسلم أخاه في المسجد فيسلم عليه ويبادله تحية الإسلام التي تعمق روح التضامن بين المسلمين.

وهذا هو الأصل في المساجد أن يربي في أبناء الأمة الإسلامية روح الألفة والجماعة والاتحاد، ويدفع بالجماعة المسلمة لتشكل للأمة مؤتمرا مصغرا لطرح مشاكلها وإيجاد الحلول لها وغير ذلك من الأدوار الفعالة.
المساجد هي مصدر النور الذي يضيء دروب الحياة. إنها ملجأ القلوب الحائرة، ودواء النفوس المريضة. في المسجد يجد المسلم راحته، وفيه تُرفع الدعوات، وتتنزل الرحمات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ”صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سُوقِه خمسا وعشرين درجة، فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن، وأتى المسجد، لا يريد إلا الصلاة، لم يخطُ خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحطّ عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد، كان في صلاة ما كانت تحبسُه، وتصلي - يعني عليه الملائكة - ما دام في مجلسه الذي يصلي فيه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يُحدث فيه”.
فلنحرص على أن تكون المساجد جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ولنغرس حبها في قلوب أبنائنا، ولنكن من عمار المساجد الذين يعمرونها بالصلاة والذكر والعلم، ويحرصون على نظافتها وصيانتها، ولنتذكر أن عمارة المساجد لا تقتصر على بنائها فحسب، بل تشمل المحافظة عليها، واحترام قدسيتها، وإحياءها بكل عمل صالح نافع للفرد والمجتمع. ومن أهم الرسائل التي يقدمها المسجد صقل الشخصية الاجتماعية للإنسان المسلم من الناحية الروحية وتهذيبها والارتقاء بمشاعرها وأحاسيسها.
ولكي يعودَ للمسجد دورُه الريادي في نهضة الأمة وتقدُّمها، واستعادة مجدها؛ فإنه ينبغي أن يمكن للمسجد كي يؤدي رسالته الروحية، والتعليمية، والاجتماعية، دون قيود؛ لكي يعودَ كما كان محورا للعديد من المجالات النافعة للأمة. وعلينا السعي إلى إحياء مكانته العظمى، التي تكمن في جوهر ما يؤدي فيه من طاعات وعبادات وما يجرى فيه من معاملات وما يقوم به من دور مؤثر في عمارة وتنمية المجتمع.