افتتح السيوطي كتابه ”الأشباه والنظائر” بقاعدة ”لا ثواب بدون نية”، وبالصيغة السابقة، واستعمل معظم الفقهاء عند الحديث على قاعدة النية عبارة ”الأمور بمقاصدها”، وهي إحدى القواعد الكلية الخمس. وأصل هذه القاعدة هو الحديث الصحيح المشهور الذي أخرجه الأئمة الستة بلفظ واحد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”. قال الإمام الشافعي عن هذا الحديث أنه يدخل في ثلث العلم وهو قول الإمام أحمد، وقال الإمام أحمد في موضع آخر: (أصول الإسلام على أحاديث، وذكر منها حديث ”إنما الأعمال بالنيات”)، وإلى نفس المعنى ذهب أبو داود والبيهقي.
ولعل أفضل تعريف للنية عند العلماء، في نظري، هو ما قاله البيضاوي: ”النية هي الإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضى الله تعالى وامتثال حكمه”، والملاحظ على تعريف البيضاوي أنه لم يجعل النية هي مجرد قصد الفعل أو العزم عليه، وإنما اشترط مع ذلك القصد ابتغاء رضى الله سبحانه وتعالى والاستجابة لأوامره.
فإن كانت النية من الأمور النفسية الباطنية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، فإن هناك أشياء أخرى تلقى في النفس وهي غير العزم الذي عُبِر به عن النية، وحاصل ما قاله العلماء في هذه المسألة أن ما يلقى في النفس خمسة أشياء، هي: أولا: الهاجس، وهو ما يلقى في النفس ابتداء، ولا يؤخذ به صاحبه إجماعا لأنه ليس من فعله، وإنما هو شيء ورد عليه لا قدرة له ولا صنع. ثانيا: الخاطر، وهو جريان الهاجس في النفس. ثالثا: حديث النفس، وهو ما يقع من التردد بين الفعل وعدمه. والخاطر وحديث النفس مرفوعان بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم ”إن الله تجاوز لأمتي ما حدثتها به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به”، وإذا ارتفع حديث النفس ارتفع الخاطر من باب أولى. قال ابن مالك معلقا على الحديث في ”شرح المشارف”، حديث النفس المتجاوز عنه نوعان ضروري: وهو ما يقع من غير قصد، واختياري: وهو ما يقع بقصد، والمراد بالحديث الثاني إذ الأول معفو عن جميع الأمم إذا لم يصر عليه، لامتناع الخلو عنه، وإنما عفي النوع الثاني عن هذه الأمة تكريما له عليه الصلاة والسلام. رابعا: الهم، وهو ترجيح قصد الفعل بغض النظر عن طبيعة ذلك الفعل كونه خيرا أو شرا، وقد تبيّن في الحديث الصحيح أن من هم بحسنة كتبت له حسنة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يفعلها، قال صلى الله عليه وسلم: ”إن الله تجاوز عن أمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل”. وجاء في الحديث القدسي ”إن همّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها سيئة وإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا همّ بحسنة ولم يعملها فاكتبوها حسنة وإن عملها فاكتبوها عشرا”.
وينقسم الهمُّ إلى قسمين: الأول، أن يهم بالشيء ويفعل ما يقدر عليه منه، ثم يحال بينه وبين إكماله، فهذا يكتب له الأجر كاملا؛ لقوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} النساء:100، بل إن الإنسان إذا كان من عادته العمل، وحيل بينه وبينه لسبب؛ فإنه يكتب له أجره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ”إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا”. القسم الثاني، أن يهم بالشيء ويتركه مع القدرة عليه؛ فيكتب له به حسنة كاملة؛ لنيّته. خامسا: العزم، وهو قوة القصد والجزم به مع إرادة الفعل، وهو النية التي نحن بصدد الحديث عنها.
أما الإخلاص فهو من أعظم ما يترتب على التمييز في النية، وهو أن يقصد الإنسان بعمله وجه الله لا يريد غيره، وقال الحموي في معنى الإخلاص: ”قيل هو سر بينك وبين ربك لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده ولا هوى فيميله”. والإخلاص قدر زائد على مجرد نية العمل، بل لابد من نية نفس العمل والمقصود له. ولذلك، لا يقع الإخلاص بدون نية، وتقع بدونه، وبناء عليه، فإن نظر الفقهاء قاصر على النية، وأحكامهم إنما تجري عليها، وأما القدر الزائد عليها من الإخلاص فأمره إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ثم صحح الفقهاء عدم وجوب الإضافة إلى الله في جميع العبادات.
وفي هذا الباب يدخل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل عن رجل يقاتل شجاعة وحمية ورياء، فأي ذلك في سبيل الله تعالى؟ فقال: ”من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله”.
* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر
الخبر
28/05/2025 - 22:20

الخبر
28/05/2025 - 22:20
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال