قال ابن الجوزي رحمه الله: حضرنا يوما جنازة شاب مات أحسن ما كانت الدنيا له، فرأيت من ذمّ الناس للدنيا، وعيب من سكن إليها، والتقبيح للغافلين عن الاستعداد لهذا المصرع أمرا كبيرا من الحاضرين، فقلت: نِعمَ ما قلتم، ولكن اسمعوا مني ما لم تسمعوه.
أعجب الأشياء أن العاقل إذا علم قُرب هذا المصرع منه أوجب عليه عقله البِدار بالعمل والقلق من الخوف، وقد اشتد ذلك بأقوام فهاموا في البراري، وطووا الأيام بالمجاعة، وداموا على سهر الليل، ولازموا المقابر، فهلكوا سريعا، ولعمري إن ما خافوه يستحق أكثر من هذا الفعل، ولكن نرى العقل الذي أوجب هذا القلق قد أمر بما يوجب السكون، فقال: إنما خُلق هذا البدن ليحمل النفس كما تحمل الناقة الراكب، ولا بد من التلطف بالناقة ليحصل المقصود من السير، ولا يحسن في العقل دوام السهر وطول القلق، لأنه يؤثر في البدن فيفوت أكثر المقصود. كيف وقد خُلق بدن الآدميِ خلقا لطيفا، فإذا هجر الدسم نشف الدماغ، وإذا دام على السهر قوِي اليُبسُ، وإذا لازم الحزم مرض القلب، فلا بد من التلطف بالبدن بتناول ما يُصلحه، وبالقلب بما يدفع الحزن المؤذي له، وإلا فمتى دام المؤذي عجّل التلف، ثم يأتي الشرع بما قد قاله العقل، فيقول: “إن لنفسك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، فصم وأفطر، وقم ونم”، ويقول: “كفى المرء إثما أن يضيع من يقوت”، ويحث على النكاح.
ودوام القلق واليبس يترك الزوجة كالأرملة، والولد كاليتيم، ولا وجه للتشاغل بالعلم مع هذا القلق، ومن أراد مصداق ما قلته فليتأمل حالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يعدل ما عنده من الخوف، فيمازح ويسابق عائشة ويكثر من التزوج، وكان يتلطف ببدنه، فيختار الماء البائت (لأنه يصفو بترسب ما قد يكون فيه من العكر)، ويحب الحلوى واللحم.
ولولا مساكنة نوعِ غفلة لما صنّف العلماء، ولا حُفظ العلم، ولا كُتب الحديث؛ لأن من يقول: ربما مت اليوم كيف يكتب وكيف يسمع ويصنف، فلا يهولنكم ما ترون من غفلة الناس عن الموت حق ذكره، فإنها نعمة من الله سبحانه بها تقوم الدنيا ويصلح الدين.
وإنما تُذم قوة الغفلة الموجبة للتفريط وإهمال المحاسبة للنفس، وتضييع الزمان في غير التزود، وربما قويت فحملت على المعاصي، فأما إذا كانت بقدر كانت كالملح في الطعام لا بد منه، فإن كثر صار الطعام زعافا. فالغفلة تُمدح إذا كانت بقدر كما بينا، ومتى زادت وقع الذم، فافهم ما قلته، ولا تقل فلان شديد اليقظة ما ينام الليل، وفلان غافل ينام أكثر الليل، فإن غفلة توجب مصلحة البدن والقلب لا تُذم.
* إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي
الخبر
24/08/2025 - 22:37
الخبر
24/08/2025 - 22:37
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال