العالم

فنزويلا على خط النار

الاختبار الجديد للهيمنة الأمريكية في عصر التعددية القطبية.

  • 1033
  • 4:23 دقيقة
الرئيس الفينزويلي، نيكولاس مادورو (على اليمين) في مواجهة ترامب، الصورة: ح.م.
الرئيس الفينزويلي، نيكولاس مادورو (على اليمين) في مواجهة ترامب، الصورة: ح.م.

في لحظة دولية يتصاعد فيها التنافس بين القوى الكبرى وسياسات الاصطفاف والاستقطاب والاحتواء، يعود التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا إلى واجهة المشهد الجيوسياسي، لكن هذه المرة بأدوات أكثر حدة. ويتضح أن الولايات المتحدة لم تعد تعتمد فقط على الضغط الدبلوماسي والاقتصادي، بل باتت تُدرج البعد العسكري ضمن منظومة الردع وضبط السلوك السياسي، دون أن يصل ذلك إلى مستوى قرار التدخل العسكري الشامل.

لا يمكن فصل التصعيد الأمريكي عن لحظة دولية أوسع تشهد إعادة تشكيل للنظام العالمي. فمع تراجع القدرة الأمريكية على فرض إرادتها منفردة وتمدد أدوار قوى منافسة في أمريكا اللاتينية، تعود المنطقة لتتصدر الحسابات الاستراتيجية.

كما أن عودة النفط إلى قلب المعادلات الجيوسياسية تجعل فنزويلا، بما تملكه من احتياطيات ضخمة نفطية، عنصرا لا يمكن تجاهله، حيث إن التصعيد لم يقتصر على الجانب العسكري، بل ترافق مع إجراءات سياسية وقانونية شديدة، من بينها تصنيف الرئيس الفنزويلي وعدد من أعضاء حكومته ضمن "منظمات إرهابية أجنبية" وفرض عقوبات على أفراد من عائلة مادورو وقيادات مقربة منه. كما شهدت الفترة الأخيرة تصعيدا اقتصاديا تمثل في مصادرة ناقلات نفط وفرض قيود على المجال الجوي وتشديد الخناق على صادرات النفط، في محاولة واضحة لخنق الاقتصاد الفنزويلي وحرمان النظام من موارده الأساسية، بينما ردت كراكاس بتحركات دبلوماسية واسعة، شملت اللجوء إلى الأمم المتحدة ومنظمة أوبك والمنظمة البحرية الدولية، فضلا عن تعزيز علاقاتها مع روسيا والصين وإيران، لكنها ترى أن الأهداف الأمريكية الحقيقية تتجاوز خطاب مكافحة المخدرات، لتشمل الحد من نفوذ هذه القوى وإعادة ترسيخ الحضور الأمريكي في أمريكا اللاتينية، فضلا عن البعد النفطي المرتبط بالسيطرة على موارد فنزويلا الاستراتيجية.

في بداية ديسمبر 2025 اجتمع الأمريكيون بمجموعة من القادة والمسؤولين في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي لحشد الدعم من أجل غزو بري أمريكي محتمل لفنزويلا. عقد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بداية ديسمبر اجتماعا في البيت الأبيض لمناقشة الخطوات التالية تجاه فنزويلا، في وقت تكثف الولايات المتحدة ضغوطها على كراكاس. حضر الاجتماع عدد من كبار المسؤولين منهم وزير الحرب بيت هيغسيث ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال دان كاين ووزير الخارجية ماركو روبيو، إلى جانب مديرة مكتب البيت الأبيض سوزي وايلز ونائبها ستيفن ميلر، فيما تسعى فنزويلا البوليفارية جاهدة إلى الاستقلال والتحرر بعيدا عن الأطماع الأمريكية والأوروبية، المرتبطة أساسا بالاحتياطيات الهامة من البترول والغاز والثروات المعدنية النادرة.

تُمثل الأزمة الأمريكية الفنزويلية نموذجا معقدا للتفاعل بين القوى الدولية والإقليمية في ظل نظام عالمي يشهد تحولات جيوهيكلية عميقة. فنزويلا، بثروتها النفطية الهائلة (أكبر احتياطي مؤكد في العالم) وموقعها الجيوسراتيجي في الكاريبي، تتحول إلى ساحة صراع بين الرؤى الأمريكية لإعادة ترسيم النفوذ في "الحديقة الخلفية"، والمشروع البوليفاري المدعوم من محور مناهض للهيمنة الغربية تقوده روسيا والصين وإيران. هذه المواجهة تتجاوز الصراع الثنائي لتعكس إعادة تشكيل جيوسياسية أوسع لأمريكا اللاتينية، في لحظة دولية تتسم بتصاعد التنافس بين القوى الكبرى وتراجع الهيمنة الأحادية الأمريكية.

من منظور نظريات العلاقات الدولية، يمكن تحليل هذا الصراع عبر عدستين رئيسيتين. أولا، نظرية الهيمنة (Hegemonic Stability Theory) التي تفسر سعي الولايات المتحدة للحفاظ على نظام إقليمي يضمن مصالحها الاستراتيجية. تراجع النفوذ الأمريكي في العقدين الماضيين مع صعود الموجة اليسارية ("الموجة الوردية") دفع واشنطن لإعادة هندسة الخارطة السياسية عبر أدوات متعددة: الدبلوماسية العامة من خلال دعم شخصيات مثل ماريا كورينا ماتشادو (الحائزة على نوبل للسلام 2025) كرمز ديمقراطي بديل، والحرب الهجينة التي تجمع بين العقوبات الاقتصادية والضغط العسكري غير المباشر، وإعادة الاصطفاف عبر تحويل أنظمة من يسارية إلى يمينية كما شوهد في البرازيل وكولومبيا والأرجنتين. ثانيا، نظرية الاعتماد المتبادل المعقد التي تشير إلى أن فنزويلا، رغم هشاشتها الداخلية، تمتلك أوراق ضغط مهمة مثل النفط الثقيل الذي تحتاجه المصافي الأمريكية المتخصصة في ساحل الخليج وشبكة التحالفات الاستراتيجية مع روسيا (الدعم العسكري والتقني) والصين (الاستثمارات والتمويل) وإيران (الدعم الفني والطاقي)، بالإضافة إلى البعد الإنساني المتمثل في تدفق المهاجرين الفنزويليين كعامل ضغط على جيرانها والولايات المتحدة.

على الصعيد الجيوسياسي، تتعدد مستويات المصالح الأمريكية المتشابكة في فنزويلا. فاستراتيجيا، تسعى واشنطن لمنع تحول فنزويلا إلى منصة عسكرية لقوى منافسة نظرا لقربها الجغرافي من الأراضي الأمريكية (حوالي 2000 كلم). اقتصاديا، تهدف للسيطرة على احتياطيات النفط الهائلة وتأمين إمدادات الخام الثقيل للمصافي الأمريكية المتخصصة. أيديولوجيا، تعمل على إنهاء النموذج البوليفاري كرمز للبديل المناهض للليبرالية الغربية. إقليميا، تسعى لإضعاف محور هافانا-كاراكاس الذي يدعم الأنظمة المناهضة للولايات المتحدة في القارة. في المقابل، يشكل الدور الروسي-الصيني تحديا للأحادية القطبية، حيث قدمت روسيا دعما عسكريا وتقنيا يتجاوز 10 مليارات دولار منذ 2006 مع وجود خبراء عسكريين ونظم دفاع جوي، بينما ضخت الصين استثمارات تقدر بـ65 مليار دولار عبر "صندوق الصين-فنزويلا"، مع اعتبار فنزويلا جزءا من مبادرة الحزام والطريق. تجمع هذه القوى على استراتيجية مشتركة لاستخدام فنزويلا كمنصة لتقويض النفوذ الأمريكي في نصف الكرة الغربي.

في البعد الاقتصادي، يشكل الحصار البحري الأمريكي على ناقلات النفط الفنزويلية نقلة نوعية في الصراع، بهدف مباشر هو خنق العائدات النفطية التي تمثل 95% من دخل فنزويلا من الصادرات وهدف استراتيجي يتمثل في إجبار حلفاء فنزويلا (روسيا، الصين، إيران) على تحمل كلفة دعم أعلى.

رغم أن فنزويلا تنتج حاليا حوالي 800 ألف برميل/يوم مقارنة بـ3.2 مليون في 1998، إلا أنه على المستوى الإقليمي، تشهد أمريكا اللاتينية إعادة هندسة جيوسياسية عميقة مع تراجع الموجة اليسارية وصعود اليمين، حيث شهدت الفترة من 2015 إلى 2023 صعود اليمين في البرازيل (بولسونارو)، الأرجنتين (ميلوني)، كولومبيا (دوكي) وتشيلي، بينما شهدت الفترة من 2023 إلى 2025 عودة جزئية لليسار في البرازيل (لولا) وكولومبيا (بيترو)، لكن مع واقعية اقتصادية تضعف التضامن الإقليمي.

يعكس ضعف الآليات الإقليمية مثل الاتحاد اللاتيني المنقسم بين دول الليما المؤيدة للتدخل ومجموعة بويبلا المؤيدة للحوار ومنظمة السيلاك التي تعاني من غياب موقف موحد بسبب الانقسامات الأيديولوجية واستخدام روسيا والصين حق النقض في الأمم المتحدة ضد القرارات الموجهة ضد فنزويلا حالة الاستقطاب العميقة التي تعيشها القارة.