في نفس اليوم الذي فتح الاتحاد الأوروبي "قرارا تحكيميا" ضد الجزائر بسبب ما أسماه "قيودا على التجارة والاستثمار"، قال بشأن إسرائيل التي تمارس "الإبادة في غزة"، باعتراف الأمم المتحدة وأجهزتها، دعها تعمل دعها تمر، فهل مازال هناك من يتردد في الحكم على اتفاق محكوم بـ"الكيل بمكيالين" في المطالبة بإلغائه اليوم قبل الغد؟
لم يجد الاتحاد الأوروبي في مجموعة الخيارات التي طرحت عليه لـ"معاقبة" الكيان المحتل أيا منها يستحق التصويت له، على كثرتها، من أشدها إلى الأخف منها، فلا منع السلاح عنه مقبول ولا قطع الشراكة معه مسموح ولا تجميد الاتفاق معه فقط مطروح، كلها رفضت جملة وتفصيلا، رغم أن الأمر يتعلق بممارسته جريمة الإبادة التي ترفضها كل المواثيق والتشريعات الدولية وتندد بها كل الهيئات والتنظيمات الحقوقية والإنسانية.
أثبت الاتحاد الأوروبي، مرة أخرى، أنها "صم بكم عمي" عندما يتعلق الأمر بما يقترفه الكيان المحتل من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهي خط أحمر في القانون الدولي، لكنه عندما يتعلق الأمر بدولة مثل الجزائر فإنه يرى ويسمع ضعفين وينصت حتى لـ"الوشوشة" في الأذن ويستجيب لـ"الإيعاز" وينتقل بسرعة البرق إلى "ربح العيب" بالذهاب مع الجزائر إلى التحكيم الدولي على طريقة "ضربني وبكى وسبقني واشتكى".
مثل هذا "العقاب" الذي يهدد به الاتحاد الأوروبي، ربما يوقظ من الغفلة، بأن الاتحاد الأوروبي الذي ظل يردد على الأشهاد بأن الجزائر شريك استراتيجي ومصدر للطاقة موثوق به، خدمة على أهميتها لا وزن لها في ميزان العلاقات ولم تجد حق قدرها في الموقف التصعيدي الذي اختاره الاتحاد الأوروبي، وهي رسالة يجب استخلاصها والبناء عليها مستقبلا في أي حوار مع الاتحاد الأوروبي، خصوصا أن ما توفره الجزائر من إمدادات للطاقة وتوفيرها في كل الظروف، حتى بعد قطع الغاز الروسي عن القارة العجوز، هي استثمارات بأموال ذاتية للجزائر ولا يساهم فيها الاتحاد الأوربي بشيء.
إسرائيل التي لا توجد بها بقعة غير ملطخة بدماء آلاف الأطفال والنساء الأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني، التي يتابع قادتها وحكومتها من قبل القضاء الدولي بممارسة جرائم حرب وجريمة الإبادة الجماعية، خرجت مثلما دخلت إلى مغسلة الاتحاد الأوروبي، خالية من الذنوب والآثام، لأن لها حقا غير مشروط في "الدفاع عن النفس"، من توقيع الاتحاد الأوروبي، لقتل وتجويع واستعمال الغذاء والدواء كسلاح للتهجير القسري للفلسطينيين ولارتكاب المجازر الجماعية واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا دون أي التزام بقواعد القانون الدولي، لكن الأمر ليس كذلك للجزائر التي انتهكت "اتفاق الشراكة" ومارست "قيودا على التجارة"، فقط لأنها لم تشتر "قمح" فرنسا وتفاحها ولم تفتح موانئها على مصراعيها لاستيراد حاويات الحجر والخيول وعصي البيزبول وأنواع المايونيز وكريمات الماكياج و"قش بختة وفناجن مريم". بالنتيجة أن إسرائيل لها اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي بـ"مزايا تفضيلية" لصالح الكيان ومع ذلك لم يتعرض حتى للمساءلة، بينما الجزائر لها اتفاق شراكة "مجحف" ولفائدة الاتحاد الأوروبي ومع ذلك يقرر جرها إلى "التحكيم" الدولي!
الكل يعرف أن الجزائر لها نقائصها في العديد من المجالات ومرت بأزمة في السنوات الأخيرة، كانت وراء تآكل مواردها واحتياطياتها المالية وصلت إلى مستوى مخيف بفعل الفساد السياسي في عهد ما سمي بـ"العصابة"، وقد اضطرت تحت وطأة ذلك إلى كبح عمليات الاستيراد، ضمن خطة إيجاد توازن بين وارداتها وصادراتها حتى لا يختل أو يعجز ميزانها التجاري، لكن الاتحاد الأوروبي الذي يتكلم عن "اتفاق شراكة" لا يتفهم ذلك ولا يريد أن يفهم ذلك، لأنه يريد أن يكون هو "الرابح" الوحيد في كل زمن وحين في أي اتفاق، فهو مثل "المنشار" طالع يأكل هابط يأكل، سواء أكانت الجزائر في بحبوحة، فمنطقه ابتزازها بفزاعته لحقوق الإنسان والديمقراطية والحريات والتي لم تعد تنطلي على أحد، أو في عسرتها المالية لدفعها للاستدانة الخارجية ليسهل عليه الاستقواء والتدخل في سيادة الدول.
لذلك فإن اتفاق الشراكة الموقع في أفريل 2002 ودخل حيز التنفيذ في 1 سبتمبر 2005 بصيغته الحالية كان غلطة تحكمت فيها ظروف تلك المرحلة الصعبة (العشرية السوداء...)، والمفاوض الجزائري يومها كان مضغوطا للتسرع في توقيعه، وأضحى قاتلا الاستمرار فيه وعدم مراجعته مادة بمادة، موازاة مع البحث عن شركاء آخرين وبدائل جديدة ضمن اتفاقات ثنائية أو ضمن تجمعات جهوية في آسيا وإفريقيا، لكسر الخناق والدفاع عن حقوقها ومصالحها المشروعة أمام بوادر الهيمنة التي تلوح في الأفق في العلاقات الدولية والتجارية.

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال