مجتمع

التحويلات المهنية... الوجه الآخر لحياة الموظف الإطار

تخفي التحويلات المهنية تمس المنتسبين للقطاعات العمومية التابعة للدولة، سواء كانوا إطارات سامية، ولاة جمهورية، مدراء تنفيذيين، عناصر الأمن لمختلف الأسلاك، موظفين ينتمون.

  • 32033
  • 5:10 دقيقة
التحويلات المهنية... الوجه الآخر لحياة الموظف الإطار
التحويلات المهنية... الوجه الآخر لحياة الموظف الإطار

تخفي التحويلات المهنية التي تمس المنتسبين للقطاعات العمومية التابعة للدولة، سواء كانوا إطارات سامية، ولاة جمهورية، مدراء تنفيذيين، عناصر الأمن لمختلف الأسلاك، موظفين ينتمون للشركات البترولية وعمال في قطاعات مختلفة الوجه الآخر لهذا الموظف؛ فعامة الناس ينظرون للمسؤول والإطار السامي والموظف إلى ما يقوم به من عمل مهما كان نوعه. وتتركز الأنظار على محيط نشاطه المهني، لكن حياته الخاصة ومعاناته التي يتحملها لوحده بعيدا عن أسرته ومسقط رأسه يجهلها الجميع. والمؤكد أن كل موظف كتب له العمل في ولاية غير ولايته يخفي قصصا وحكايات بسبب البعد عن العائلة، وتزداد المعاناة لمن يشتغلون على بعد مسافات طويلة في أعماق الصحراء، والذين لا يملكون وسائل الراحة وكذا الإمكانات التي تسمح لهم بالتنقل .

 يجمع الذين تحدثنا إليهم أن العمل بعيدا عن العائلة والمنطقة التي ترعرعوا بين أحضانها لا يقدر بثمن، مهما كانت رفاهية المنصب وسلطته وامتيازاته.

فالبعد، حسب الأخ توفيق، ينجم عنه غياب الاستقرار ويؤثر بشكل مباشر على مردود العمل، حيث يؤكد محدثنا بأنه في إحدى المرات، وقبل التنقل في مهمة عمل في مدينة جنوبية، نقل زوجته الحامل إلى بيت أهلها في ولاية أخرى، وبعد أقل من شهر حان موعد وضعها.

وبما أنه أول مولود، فقد صادفتها عديد الصعوبات الصحية وازدادت تعقيدا بغياب التكفل الطبي، خاصة وأن حقوق العملية القيصرية لا يحوزها، وعاش خلال فترة أربعة أيام كابوسا حوله إلى مجنون.

ولما اشتد الأمر، أجبر على مغادرة مكان عمله في الساعات الأولى للصباح دون إذن، وتوجه على الأعصاب صوب العيادة الخاصة التي ترقد بها زوجته.

وفي الطريق أجرى اتصالات ماراطونية مع جميع معارفه وأقاربه لتدبير مصاريف العملية، ولم يهدأ له بال حتى اطمئن على زوجته ومولودها.

وفي السياق تطرق السيد توفيق إلى حالات التحويل الإجباري وآثارها على تمدرس الأبناء، إذ صادف الآباء صعوبة كبيرة في تحويل أبنائهم إلى مكان العمل الجديد بسبب الرقمنة. ويضاف لها أن الموظف يصطدم بمشكل السكن ويجبر على التأجير والترحال من مسكن إلى آخر في ظروف كارثية.

ونبه محدثنا إلى أن بعض الإطارات والموظفين يكون تحويلهم بالقرب من مكان عملهم، كأن يبقى في محيط العاصمة لسنوات طويلة، لكن من يعمل في ولاية شبه جنوبية ويحول إلى أقصى نقطة في الصحراء الجزائرية المعروفة بشساعة مساحتها، فالأمر يندرج في خانة العقوبة. وأضاف أن موظفين آخرين يحولون إلى ولاية تبعد عن مقر عملهم بنحو200 أو 300 كلم، فيفضلون عدم نقل أسرهم معهم، لكن يضطرون نهاية كل أسبوع إلى قطع مسافات طويلة من أجل المكوث 48 ساعة مع أولادهم متحملين خطر الطريق. 

وفي السياق، يسرد عبد الكريم مسيرة ربع قرن قضاها في أعماق الصحراء في شركة بترولية، حيث يعمل بنظام شهر عمل وشهر راحة.

وحسبه أن البعد عن الأسرة أشبه بالجحيم، فعندما يتناهي إلى مسامعه بأن أحد أفراد العائلة مريض أو أصابه مكروه يشعر بالقلق، ومع مرور الوقت ونتيجة الضغوطات يصاب بالأمراض كالسكري والضغط الدمويـ لأنه من الصعب التحكم في الأعصاب في حال أصيب الوالد أو الوالدة أو الزوجة أو الأبناء بعارض صحي.

ويتحدث المعني عن تجربة ذاق فيها مرارة العيش بعيدا عن الأسرة. ولفت عبد الكريم إلى نقطة جوهرية تتعلق بمتابعة الأبناء في تربيتهم ودراستهم، فعدم وجود الأب قد يتسبب في انحراف الأولاد.

كما أن المسؤولية قد تتحملها الأم لوحدها، والسؤال هل تكون قادرة وموفقة في ذلك؟ والملفت، حسب قوله، أن الأبناء يكبرون دون أن تدرك ذلك والعكس، وكيف يكون إحساسهم. وإن أثنى محدثنا على توفر ظروف المعيشة من مأكل ومشرب، إلا أن العمل في الصحراء يعتبر كأنك في الغربة رغم أنك في وطنك.

طارق، ممرض رمته الأقدار في منطقة تقع في عمق الصحراء، استعرض جانبا من معاناته في عديد الأمور، منها ما تعلق بالبعد عن العائلة والحرمان من دفئها، زيادة على ظروف العيش، حيث يرغم على تناول الأكلات االسريعة التي قد تفتقر للشروط الصحية، زيادة على أنها روتينية، ناهيك على أن وقته سيكون منحصرا بين مكان عمله والمقهى والمطعم، إذ يشتاق لقعدة الأصدقاء والأحباب.

متاعب أخرى يرويها لنا طارق، وتتعلق بعدم توفر الطائرة خلال جل أيام الأسبوع، مما يجبره عند الضرورة إلى التنقل برا لمسافات طويلة باستعمال سيارات الأجرة أو الحافلة.

وختم محدثنا كلامه بسرد حادثة طريفة في رحلة عودته باستعمال سيارته لقطع نحو 1500 كلم. ففي حاجز للدرك الوطني طلب منه اصطحاب زميلهم، وخلال رحلة السير كان ذلك الدركي يترقب أخبارا عن زوجته التي حولت للمستشفى من أجل الولادة، وفي الرابعة صباحا أبلغ هاتفيا بأنها أنجبت له بنتا فغمرته فرحة عارمة، وبمجرد التوقف في مقهى حتى قام بتسديد ما تناوله جميع الزبائن.

"غياب الأب.. ثمن باهظ تدفعه الأسرة والمجتمع"

وذكرت المختصة النفسانية إيمان جباري أن غياب الأب للعمل، في مكان بعيد عن الأسرة، يعد مشكلة متفاقمة تتطلب حلولا عاجلة، إذ ازدادت في السنوات الأخيرة حالات غياب الآباء عن أسرهم بسبب متطلبات العمل والسفر المتكرر، مما يثير قلقا بالغا حول الآثار السلبية لهذه الظاهرة على بنية الأسرة وتماسكها. فغياب الأب، الذي يعتبر ركيزة أساسية في تكوين شخصية الطفل، يخلق فراغا عاطفيا واجتماعيا يصعب تعويضه.

وتضيف المتحدثة أن الأب يلعب دورا محوريا في الحياة الأسرية، فهو رمز السلطة والقانون الذي يضع القواعد ويحدد السلوكيات المقبولة وغير المقبولة.

وتؤكد المختصة أن غيابه يزيد من احتمالية تعرض الأطفال للاضطرابات السلوكية، مثل العدوانية والانطواء، نتيجة لعدم وجود نموذج يحتذى به.

كما يؤثر غياب الأب سلبا على التحصيل الدراسي للأطفال، حيث أنهم يفتقدون إلى الدعم والتوجيه اللازمين، وقد يدفع غياب الأب بعض الأطفال إلى الانخراط في سلوكيات خطرة، بحثا عن الهوية والانتماء.

وقد يشعر الأطفال بالأمان والاستقرار بوجود الأب، حسب المتحدثة، فهو الحصن الذي يلجأون إليه في مواجهة مخاطر الحياة، وغيابه يولد مشاعر سلبية مثل الخوف والقلق، وقد يؤدي الأمر إلى اضطرابات نفسية تؤثر على حاضرهم ومستقبلهم.

وقالت السيدة إيمان جباري أن الأب هو القدوة الأولى للطفل، وهو الذي يشكل شخصيته، يساعده على بنائها، ويوجه سلوكه، وغيابه يدفع الأطفال إلى البحث عن قدوة في أماكن أخرى، قد لا تكون صحية أو آمنة. وقد يتعلق بأشخاص آخرين لتعويض هذا الفراغ، إلا أنهم قد يكونون أشخاصا سلبيين.

من جهة أخرى، تؤكد ذات المختصة أن الأم تجد نفسها بين مطرقة المسؤولية وسندان الحنين، فهي تتحمل عبء المسؤولية الأكبر في تربية الأبناء في ظل غياب الأب، مما يزيد من ضغوطها النفسية ويجعلها عاجزة عن توفير كل الاحتياجات العاطفية والنفسية لأطفالها، وبالتالي يحدث اختلال في التوازن الأسري.

أما الأب الغائب فهو ضحية العزلة، كما قالت، فلا يعاني الأطفال وحدهم من غياب الأب، بل يعاني الأب نفسه من الشعور بالعزلة والانفصال عن أسرته، مما يؤثر سلبا على علاقاته الاجتماعية وعاطفته.

إن غياب الأب عن الأسرة يمثل تحديا كبيرا للمجتمع، حسب المتحدثة التي نادت بمشاركة كل الأطراف المعنية وتضافر جهود الجميع للحد من آثاره السلبية، والعمل معا على توفير بيئة آمنة ومستقرة للأطفال، وأن نضمن لهم حصولهم على الرعاية والحب اللازمين لنموهم بشكل سليم.