مجتمع

"الوحدة بعد السبعين".. رجال يروون معاناتهم

أربعة رجال من جيل واحد، تفرقت بهم السبل بعد أن وحّدهم القدر في تجربة الفقد.

  • 2830
  • 5:51 دقيقة
الرسم: رابح سوسة "الخبر"
الرسم: رابح سوسة "الخبر"

"أقوم في الصباح، أرتب فراشي بجهد، وأُحضّر قهوتي المعتادة، ثم أغسل فنجاني وأُصفّف شعري، وأضع عطرا احتفظت به كهدية من زوجتي. بعدها أحمل قفّتي وأغلق الباب من ورائي، أنتظر في موقف الحافلات مرور وسيلة النقل، ثم أتوجه نحو السوق لأقتني بعض الضروريات. بعدها أعرّج على مقهى في ساحة التوت، ألتقي بعض المعارف ونتبادل أطراف الحديث، قبل أن أعود إلى شقتي الموحشة ووحدتي القاتلة. أفتح الباب ولا أحد يردّ التحية أو يمدّ يده لحمل القفة. أجلس قليلا على الكرسي، ثم أدخل المطبخ لأعدّ وجبة غدائي، ولم أعد أفرّق بين الملح والسكر، فكلاهما أبيض وناعم".

هكذا يبدأ العم موسى، البالغ من العمر أربعا وثمانين سنة، حديثه لـ "الخبر". رجل أرمل فقد زوجته منذ ثلاث سنوات، يعيش وحيدا في شقة بقلب مدينة البليدة بعدما تزوج أبناؤه وأقاموا حياتهم الخاصة، وصارت زياراتهم له متباعدة وكأنهم ضيوف.

يقول العم موسى بنبرة هادئة وكلمات تختزل الحنين: "عشت مع زوجتي حياة مستقرة. كنت أعود كل مساء بباقة ورد، وإن غلت، كنت أقطف بعض زهر الياسمين من بستان جارنا. كانت تستقبلني بابتسامتها وتهيئ الغداء، ونتبادل أحاديث السوق والعائلة وجيراننا. كانت يدها دائما مشغولة، حركة محسوبة واتيكيت متناهي؛ مرة تقدم لي الخبز، وأخرى تسكب الماء، وتشارك في الوجبة التي أعدّتها بعناية، زينتها بمناديل حمراء مزركشة وأزهار فوق الطاولة. ما إن نفرغ من الغداء، تقوم على الفور، ترتب الطاولة، تمسح ما سقط، ثم تجلي الأواني وتحضّر فنجان القهوة ونحن نكمل أحاديثنا عن الجيران والأولاد."

يضيف متنهداً: "كانت تشكو اشتياقها لابنتنا البكر، وتطلب أن تستضيفها يوم الجمعة على طبق كسكس ولبن. كنت أوافقها بسرور. بعدها أتمدّد قليلا وأصلي الظهر ثم أغفو في قيلولة هادئة. هكذا كانت حياتي معها طيلة 54 عاما، أما اليوم، فالوحدة تسكنني منذ 36 شهراً. رحلت أنيسي ومؤنسي، وباتت الشقة، رغم الأثاث والكتب والذكريات، موحشة. لم أعد أذوق طعم الأكل ولا الحلوى، وصارت أيامي متشابهة. أستيقظ، أعدّ القهوة، ثم أغادر، لأعود وأجد الصمت رفيقي الدائم."

وحين سألناه عن فكرة الزواج ثانية، ابتسم وقال: "في البداية ظننت أني سأعتاد على الوحدة، لكن جسدي بات يطلب من يخدمه، لم أعد أقدر على ترتيب البيت ولا إعداد القهوة. رغبت فعلا في الزواج مرة أخرى، وأبنائي الذكور لم يمانعوا، بل شجعوني. لكن ابنتي البكر حين علمت، قلبت الموضوع إلى مأساة، وبكت طويلا، ولم تهدأ. رضخت لرغبتها، وبقيت أعيش وحدتي، أجالس طيف زوجتي الراحلة، وأقول: أمري إلى الله."

معركة مع الأولاد

أما العم محمد، فقصته أشد وجعا، تصلح أن تكون سيناريو لفيلم اجتماعي مؤلم. يقول بانفعال واضح: "لماذا يرفضون زواجي؟ أنا في الثمانين، بالكاد أتحرك، ولم أعد أقدر على تناول دوائي بانتظام. يريدون فقط أن لا أقسم معهم الفيلا والبونسيون! سأشتكي الأمر لإمام المسجد ولن أسكت."

يهدأ قليلا، ثم يتساءل بصوت مبحوح: "لماذا يعاملني ابني هكذا؟ كنت وفيّا لزوجتي وعشت معها 48 سنة، واليوم أحتاج من يخدمني ويهتم بي. أنا مريض بالقلب وقد أموت في أي لحظة، وسأترك لهم كل شيء. لا أريد زوجة صغيرة، فقط امرأة بصحتها تفهم وضعي وتقبل مرضي، وسأحترمها وأصون حقوقها." رنّ هاتفه الجوال فتمتم غاضباً "ما يخلّونيش دقيقة نرتاح مع الناس!" ثم نهض متكئا على جسده الواهن، وغادر دون أن يسلّم. كانت ملامحه تشير بمرارة رجل فقد دفء البيت، لا لغياب الزوجة فحسب، بل لفتور الأبناء أيضا.

العم عبد الكريم، جندي سابق في جيش التحرير، كان وجهه الوسيم وشعره الرمادي اللامع وابتسامته الهادئة تروي فصلا آخر من قصص الأرامل. كانت صوره القديمة بزيّ عسكري أنيق تكشف رجلا مهابا، أبيض البشرة، فضيّ العينين، ممشوق القامة.

يحكي لـ "الخبر" ذات مرة قائلاً:  "كنت أرغب في الزواج ثانية بعد وفاة زوجتي، حاولت بالفعل لكن التجربة فشلت. أبنائي لم يعارضوا، بل شجعوني، فهم جميعا بخير، ميسورو الحال، ولا ينقصهم شيء. كانوا يقولون لي دائماً: "يا أبي، اختر من تعيش معك وتخدمك وتؤنسك، نحن لا نستطيع البقاء معك دوما".

يضيف بأسى: "كنت أبحث عن امرأة تقبلني كما أنا، لكني لم أجد. لم يكن أحد يعترض، فقط كنت أبحث عن من تناسبني."
غير أن الموت سبقه إلى القرار. رحل فجأة، دون أن يتمكن من الزواج أو أن يودّع أحدا من أبنائه. وُجد جثمانه في شقته، كما تركها، نظيفة ومرتبة، يلفها الصمت.

وفاء للزوجة

أما العم محي الدين، أو كما يعرفه جيرانه بـ "الجد أحمد"، فكان من أغنى رجال الحي وأكثرهم نشاطا رغم بلوغه الثمانين. لم يكن يركب سيارة، يذهب إلى السوق سيرا، ويعود محمّلا بالخبز والخضر والفواكه، رافضا مساعدة أحد. كان يضحك ويمازح الجميع قائلا: "وش تحسبوني كبرت؟ ياو مازالني على ديداني!"

لكن رحيل زوجته قلب حياته رأسا على عقب. تقوس ظهره وضعفت حركته، وسكنه الصمت. لم يعد يسمع له صوت ولا نكتة. جلس معظم وقته تحت نافذة غرفتها، ينظر إلى الأرض بعينين غائرتين. نادرا ما يردّ السلام، بالكاد يأكل، يكتفي بفنجان قهوة وزجاجة ماء ترافقه طول اليوم.

ومع حلول الليل، يختفي ويغلق باب غرفته، لا ينهض إلا مع أذان الفجر، يقصد المسجد ثم يعود إلى كرسيه وإبريقه الصغير. ذلك الروتين، كما يقول المقربون، جعله يدخل في عزلة عميقة، حتى اهتدى يوما إلى فكرة شراء مركبة مع سائق خاص، يجوب به الأزقة والأحياء والقرى البعيدة.

استمر على هذا النحو عاما كاملا، متنقلا بين الأماكن بلا هدف، هاربا من ذكرياته. أبناؤه ألحّوا عليه بالزواج من جديد، لكنه رفض قائلا: "لا أريد شريكة ثانية، لقد كانت زوجتي كل حياتي، ولن أقبل القسمة."

وبقي وفيا لعهدها حتى آخر يوم في حياته. مات كما عاش آخر سنواته: صامتا، وحيدا، لكن مخلصا. تحوّل موته إلى حديث الناس في الحي، يتناقلون عبارته الأخيرة: "عشت وفيا، وأملي أن ألقاها هناك كما وعدتها."

أربعة رجال من جيل واحد، تفرقت بهم السبل بعد أن وحّدهم القدر في تجربة الفقد. كل منهم واجه شيخوخته على طريقته: من بحث عن أنيسٍ يُخفف وحدته، ومن قوبل بالرفض من أبنائه، ومن خطفه الموت قبل أن يحقق حلمه، ومن آثر الوفاء حتى آخر رمق.

قصصهم، وإن بدت فردية، فهي مرآة لجيلٍ من الآباء الذين صنعوا عائلات، ثم وجدوا أنفسهم في مواجهة الوحدة القاسية بعد أن رحلت شريكات العمر. في صمتهم الطويل ودموعهم المكبوتة، تختبئ رسائل عن الوفاء والخذلان، وعن ذلك الحنين الذي لا يموت، حتى وإن توقف القلب.

"زواج المسنين حق طبيعي لا يجوز عرقلته"

تحدث الأكاديمي والباحث في علم النفس الاجتماعي، البروفيسور عزيز بوسالم، عن ظاهرة زواج كبار السن، موضحا أن هذه المسألة تتداخل فيها عدة مواقف ودوافع متباينة، بعضها ذاتي وبعضها اجتماعي.

ويرى بوسالم أن الموقف الذاتي يرتبط غالبا بالشخص الأرمل نفسه، الذي يرفض الزواج مرة ثانية وفاء لزوجته الراحلة، أو حياء من كلام الناس، أو أحيانا تهربا من تحمّل مسؤوليات جديدة في هذا العمر.

أما الموقف الاجتماعي، فيظهر في الرفض المطلق الذي يبديه الأبناء أو الأقارب لفكرة زواج الأب أو الجد من جديد، معتبرين ذلك "خيانة لوالدتهم"، أو فعلا لا يليق برجل متقدم في السن. ويتعامل البعض مع الزواج في هذه الحالة وكأنه جريمة اجتماعية، رغم أن القانون يجيزه والدين لا يمنع ذلك، بل يشجع على الستر والرفقة في الشيخوخة.

ويضيف البروفيسور بوسالم أن الحقيقة الخفية وراء هذا الرفض لا تتعلق غالبا بالأخلاق أو بالحياء كما يُعلن، بل بالهواجس المادية التي تسكن الأبناء. فالكثير منهم يخشون أن تؤدي الزوجة الثانية إلى اقتسام الميراث، أو أن تستفيد من المكاسب والممتلكات التي يعتبرونها "حقا مكتسبا" لهم. كما يخافون من أن تؤثر الزوجة الجديدة في والدهم، أو أن تُحرّضه ضدهم وتُحدث شرخا داخل الأسرة.

ويصف بوسالم هذا السلوك بأنه في جوهره أناني بامتياز، إذ يغلّب الأبناء مصالحهم الخاصة على حق والدهم الطبيعي في الرفقة والاستقرار النفسي في سنوات عمره الأخيرة، مضيفا أن المجتمع ما يزال ينظر إلى زواج كبار السن من الأرامل أو الأرامل المسنات بعين الريبة والرفض، بينما هو في الحقيقة حاجة إنسانية مشروعة لا تقل أهمية عن حاجات الشباب.