بين رائحة الصوف والقماش، وصوت الإبرة وهي تنسج تفاصيل الراحة في الوسائد والفرش، تعيش مهنة الطرّاح في الجزائر حالة خاصة تجمع بين الأصالة والاندثار. فهي واحدة من أعرق المهن التقليدية التي لطالما ارتبطت بالبيت الجزائري، لكنها اليوم تواجه خطر التراجع في ظل المنافسة القوية من المنتوجات الصناعية المستوردة.
مهنة عريقة برائحة الأصالة
الطرّاح ليس مجرد عامل يُعيد ملء الوسائد أو تجهيز الأفرشة، بل هو حرفيّ متمرس يحمل بين يديه خبرة الأجيال. هذه المهنة القديمة كانت إلى وقت قريب جزءا لا يتجزأ من حياة الجزائريين، إذ لا يخلو بيت من وسائد أو أفرشة منجّدة يدويا، تعكس الذوق المحلي واللمسة التقليدية التي تزيّن الصالونات.
وقد شكّل الطراح ركيزة أساسية في تجهيز العرائس والمنازل، حيث كان يستدعى خصيصا لصناعة الفراش الفاخر والوسائد المطرزة، وهو ما جعل لهذه الحرفة حضورا اجتماعيا وثقافيا يتجاوز مجرد كونها مهنة.
شهادة هشام .. 26 سنة من الوفاء للمهنة
إلتقينا بهشام، أحد الحرفيين الذين ما زالوا محافظين على مهنة الطرّاح رغم التحديات. هشام، الذي يبلغ اليوم من العمر 43 سنة، يزاول المهنة منذ أكثر من 26 سنة، حيث بدأ مشواره سنة 1999.
يروي هشام بداياته قائلا: "تعلمت هذه الحرفة على يد والدي، أنا وأخي الأكبر. كنت في البداية أساعد أبي في حمل الأغراض والأدوات التي يعمل بها، ولم تكن لديّ رغبة حقيقية في تعلم المهنة. لكن والدي كان دائما يشجعني على ذلك، حتى أنه كان يعطيني بعض المال بعد أن أنتهي من مساعدته، وكأنه أراد أن يجعلني أحب المهنة بطريقة غير مباشرة. ومع مرور الوقت أصبحت الطراحة جزءا من حياتي اليومية".
اليوم، أصبح هشام معروفا على نطاق واسع، ليس فقط في محيطه المحلي، بل حتى على مستوى وطني، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. يضيف قائلا: "مواقع التواصل الاجتماعي فتحت لي أبوابا عديدة. الناس يراسلونني يوميا من أجل إعادة تطريح وسائدهم أو لتجديد ديكور صالوناتهم. بعضهم يطلبون مني إعادة تطريح أفرشة قديمة ورثوها عن أمهاتهم وجداتهم، وكأنني أعيد لهم جزءا من ذاكرتهم".
حرفة تواجه الاندثار
رغم إصرار هشام وغيره من الحرفيين، إلا أن مهنة الطرّاح تعاني اليوم من تراجع ملحوظ. فالمنافسة مع المنتوجات المستوردة والمصنوعة في المصانع، أثرت كثيرا على الإقبال على العمل اليدوي. هذه المنتوجات الصناعية تغزو الأسواق بأسعار زهيدة، ما يجعل الحرفيين في وضعية صعبة، خصوصا وأن الطراحة اليدوية تتطلب وقتا وجهدا ودقة في العمل.
يقول هشام بهذا الخصوص: "الزبون اليوم يفكر في السعر أكثر من الجودة، وهذا ما يجعل الكثير من الناس يتجهون إلى المنتجات الجاهزة. لكن هناك فئة لا تزال تقدر العمل التقليدي، وتدرك أن الطراحة اليدوية تدوم لسنوات طويلة، على عكس الصناعي الذي لا يصمد كثيرا".
الطراح… بين الماضي والحاضر
إذا كانت الطراحة في الماضي مهنة مربحة وضرورية في كل بيت، فهي اليوم مهنة تراثية أكثر منها عملية. ومع ذلك، لا يزال الكثير من الجزائريين يحنّون إلى تلك الوسائد المنجدة يدويا التي تحمل لمسة الدفء والخصوصية، بعيدا عن برودة المنتجات الصناعية.
الحفاظ على هذه المهنة يحتاج إلى مبادرات دعم من الدولة والجمعيات الحرفية، سواء عبر التكوين المهني، أو من خلال إدماج الحرفيين في المعارض والأسواق الوطنية والدولية. كما أن مواقع التواصل الاجتماعي قد تكون جسرا لإحياء هذه الحرفة، من خلال تسويقها كمنتج تقليدي فاخر يمكن أن يجد له مكانا حتى خارج الجزائر.
مهنة الطرّاح في الجزائر ليست مجرد عمل يدوي، بل هي ذاكرة حية تختزن عبق الماضي، وتعكس جزءا من الهوية الثقافية. هشام وأمثاله يثبتون أن الإصرار والشغف يمكن أن يحافظا على الحرف التقليدية رغم كل الصعوبات. وبينما تتراجع هذه المهنة في ظل غزو المنتجات الصناعية، يبقى الأمل معقودا على مبادرات شبابية تعيد لها مكانتها، وتحولها من حرفة مهددة بالاندثار إلى تراث متجدد يواكب العصر.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال