أقلام الخبر

المغرب بين وهم "القضية الأولى" وأزمات الداخل

منذ اجتياح القوات المغربية للصحراء الغربية عام 1975 تحت جنح الظلام، تمزقت الأرض وسُلخت الإنسانية الصحراوية عن جذورها.

  • 676
  • 2:45 دقيقة

على مدى عقود، يعيش المغرب حالة هوس سياسي وإعلامي بملف الصحراء الغربية، حتى تحول هذا الملف إلى عقيدة رسمية لا تقبل النقاش أو المراجعة، وكأن الصحراء الغربية وحدها تحدد مصير النظام، بينما تُركت القضايا الداخلية غارقة في أزمات الفقر والبطالة المتفشية والهجرة غير الشرعية وضياع أجيال كاملة بين المخدرات والانتحار واليأس الاجتماعي.

منذ اجتياح القوات المغربية للصحراء الغربية عام 1975 تحت جنح الظلام، تمزقت الأرض وسُلخت الإنسانية الصحراوية عن جذورها، لتبدأ صفحة من النكبات والمعاناة التي لازمت هذا الشعب الصامد والتي من خلالها لم يتوقف النظام المغربي عن ترديد شعار "الصحراء قضية وطنية أولى"، حتى تحول هذا الشعار إلى ستار كثيف يخفي إخفاقاته الداخلية والسياسية ويبرر القمع ويكمم الأفواه ويحوّل الشعب الصحراوي إلى "عدو خارجي" مزيف، بينما تُستثمر الصحراء الغربية كأداة لذر الرماد في العيون وتغليب خطاب العداء الخارجي على معالجة أزمات الداخل.

اليوم، يرزح المغاربة تحت وطأة غلاء المعيشة المتفاقم وانهيار الخدمات العامة وارتفاع معدلات البطالة التي تجاوزت 12% رسميا حسب المندوبية المغربية السامية للتخطيط، فيما تصل نسب البطالة بين الشباب إلى أكثر من 25% في المدن الكبرى، بينما يواصل النظام توظيف ورقة الصحراء لضمان بقائه السياسي. الهوس بالصحراء الغربية والإشغال الإعلامي بها يبرّر فشل الدولة في تقديم حلول عملية للأزمات الاجتماعية والاقتصادية ويحوّل المواطنين إلى مراقبين لعدو خارجي وهمي بدل التركيز على واقعهم المؤلم. هذه المهزلة التي يشارك فيها الإعلام الرسمي والسياسي يحوّل التركيز إلى الخارج، ليصرف أنظار الشعب عن حقيقة معاناته اليومية التي تُترك دون حلول، بينما السلطة تبحث عن أوراق سياسية لتبرير بقائها وتجنب الانكشاف أمام شعب يعيش ضياعا حقيقيا.

هوس النظام بالعدو الخارجي يكشف ضعف الدولة وحصارها الذاتي ويثبت أن السلطة المغربية لا تعرف سوى توظيف الأوهام لتغطية الفشل، بينما الواقع المعاش للمغاربة يُهمل ويُهدر.

المفارقة الأكبر أن هذا الانغماس في "القضية الأولى" جعل المغرب رهينة تحالفات مشبوهة، أبرزها التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي تحت ذريعة دعم موقفه في الصحراء الغربية، وهو خيار أثار غضبا شعبيا واسعا لأنه كشف استعداد السلطة للتضحية بمبادئ الأمة ومصالح الشعب مقابل ورقة سياسية مهترئة، تستخدم لتبرير الاحتلال وشراء الدعم الدولي.

كما أصبح الهوس بالجزائر جزءا من الحياة اليومية، حتى غدا الحديث عن "الجار الشرقي" أهم من معالجة الواقع الداخلي. الإعلام الرسمي والخاص، الخطاب السياسي، وحتى أحاديث الشارع، باتت كلها أسيرة وهم الصراع الخارجي، وكأن المغرب فقد البوصلة وصار يقدّم العداء الرمزي على مصالح مواطنيه.

الاحتلال المغربي للصحراء الغربية لم يكن مجرد نزاع إقليمي، بل صفقة سياسية وعسكرية واقتصادية، أجهزت على الأرض والمجتمع وسلّخت الإنسان الصحراوي عن هويته وجذوره وفرضت سيطرة عسكرية ونهبا للثروات الطبيعية. ومع مرور الوقت، أصبح النظام يعتمد على القوة والتهديد الإعلامي والدبلوماسي لإخفاء فشله الداخلي وتصدير الأزمات نحو الخارج بدل حلها داخليا. في ظل هذه الأوضاع، يظهر المغرب عالقًا بين قضية خارجية استنزفت طاقاته وأوهامه وداخل منهار يئن تحت وطأة الفقر والتهميش وضياع الأجيال، حيث النظام جعل بقاءه مرهونا بملف لم يجلب سوى العزلة والإنهاك والفساد، بينما تتكدس على أبواب المملكة ملفات أكثر إلحاحا: من الخبز إلى الحرية، ومن الكرامة إلى السيادة الحقيقية، لقمة العيش المفقودة، السكن غير اللائق، الصحة المتردية والتعليم المنهار.

أما الصحراويون وأحرار العالم الذين معهم فيكافحون من أجل حرية واستقلال لا مساومة فيهم، لا شيء قادر على كبح إرادتهم، فهم يسيرون على درب الحق والكرامة، يزرعون الأمل في قلب الصحراء الغربية الحرة، واثقون بأن العدالة ستنتصر على الاحتلال وأوهام نصف قرن.

وليعلم الاحتلال المغربي أن الصحراء ليست درعا يحمي عرشه، بل مرآة تكشف عريه، وأن إرادة الشعب الصحراوي أقوى من كل التضحيات والمخططات، وأن الأرض لأهلها، ولن يتخلى عنها مهما كان الثمن.