لم يكن معرض الجزائر الدولي في طبعته الـ56 مجرد فضاء تجاري، بل مثل محطة إستراتيجية لتجسيد التحول الاقتصادي الذي تقوده الجزائر الجديدة ورسالة قوية تعكس رؤية الرئيس عبد المجيد تبون، الذي يطمح إلى إرساء اقتصاد وطني قوي ومتنوع، موجه نحو الإنتاج والتصدير لا الاستيراد والاستهلاك.
الرئيس تبون، الذي قضى ساعات طويلة بين أروقة المعرض، حرص على التواصل المباشر مع رجال الأعمال ورؤساء الشركات المشاركة في المعرض ووجه تعليمات آنية لتذليل العقبات الإدارية أمام المؤسسات المنتجة، مؤكدا أن "التحول الاقتصادي لا يصنع بالشعارات، بل بالإرادة السياسية والفعل الميداني والمرافقة الحقيقية للمستثمرين".
وفي صلب هذه الرؤية، يبرز الرهان على الصناعة كركيزة أساسية للسيادة الاقتصادية، حيث إن الهدف المعلن برفع نسبة الاندماج إلى 50 بالمائة في الصناعات المحلية ليس مجرد طموح، بل خطوة نحو التحكم الكامل في سلاسل القيمة وتثمين المواد الأولية وخلق مناصب شغل مؤهلة تفتح آفاقا جديدة أمام الشباب الجامعي والتقني.
وخلال تجواله بين أجنحة المعرض، وقف تبون عند قطاعات حيوية مثل الصناعات الميكانيكية والعسكرية وصناعات النسيج والتكنولوجيات الحديثة، مؤكدا أن الجزائر تمتلك إمكانات ذاتية كبيرة وتنتظر فقط تحريرها في مناخ استثماري محفز وإدارة عصرية وسريعة التفاعل.
وفي خطوة رمزية وعملية، تؤكد هذه الرؤية وهذا الطموح، أمر تبون بحل فوري لمشكل عقاري يعيق توسعة وحدة صناعية، ما يعكس، حسب متابعين، تحولا في نمط الحوكمة من البيروقراطية إلى البراغماتية الفعالة.
كما أبرز تبون، خلال لقائه حاملي مشاريع مبتكرة وشباب مقبلين على الاستثمار، أن "التنمية الوطنية لن تتحقق إلا بتثمين طاقات البلاد، خاصة فئة الشباب، وبالاعتماد على الذات مع الانفتاح الذكي على الخارج".
ومنذ توليه الرئاسة أواخر سنة 2019، رسم تبون ملامح سياسة اقتصادية جديدة تقوم على تحرير المبادرة ودعم الإنتاج الوطني واستعادة السيادة الاقتصادية، في قطيعة مع نموذج الريع البترولي الذي ظل سائدا لأكثر من خمسة عقود.
وقد شدد تبون على أن الصناعة هي ركيزة الاستقلال الاقتصادي، محددا هدفا برفع نسبة الإدماج في التصنيع إلى 50 بالمائة وتشجيع الصناعات الميكانيكية والغذائية والنسيجية والعسكرية بدل الاكتفاء بتركيب المنتجات المستوردة، خاصة في مجال الصناعات الإلكترونية والكهرومنزلية.
وفي السياق نفسه، أطلق الرئيس إصلاحات عميقة في التجارة الخارجية، من خلال ترشيد الواردات ومحاربة الفوترة المضخمة، مع رقمنة الإجراءات التجارية وإعادة ضبط السوق وفق احتياجات الاقتصاد الوطني.
كما تم سن قانون استثمار جديد يكرس حرية المبادرة ويقلص البيروقراطية، بالتوازي مع فتح المجال أمام الشباب والمقاولاتية داخل الجامعة وتشجيع الشركات الناشئة ضمن رؤية ترمي إلى إنشاء 20 ألف مؤسسة ابتكارية بحلول 2029.
إن التحول الاقتصادي الذي يقوده الرئيس تبون، ووقف على ما تم إحرازه أول أمس في قصر المعارض، يقوم أيضا على تنويع الشراكات الخارجية والانفتاح على إفريقيا والفضاء المتوسطي، مع تركيز واضح على الاكتفاء الذاتي في الغذاء والدواء والطاقة النظيفة، في إطار توجه استراتيجي نحو اقتصاد منتج، مستدام ومتحرر من التبعية.
ومن هذا المنطلق، لم يكن تواجد الرئيس تبون وجولته بين أجنحة معرض الجزائر الدولي، أول أمس، مجرد زيارة لتظاهرة اقتصادية، بل تجسيد لرؤية دولة تبني مقومات اقتصاد منتج ومستدام، تطمح الجزائر من خلالها إلى انتزاع موقع متقدم بين القوى الاقتصادية الناشئة في إفريقيا والمنطقة المتوسطية.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال