اسلاميات

أثر الضرر في التصرفات الشرعية

ذهب العلماء إلى اعتبار نفي الضرر علة في تشريع عدد من الأبواب الفقهية كالعرية، حيث قالوا في علة جوازها أنها جوزت لرفع الضرر وكذلك الشفعة

  • 125
  • 3:07 دقيقة
الدكتـور عـز الديـن بـن زغيبـة
الدكتـور عـز الديـن بـن زغيبـة

لقد ذهب العلماء إلى اعتبار نفي الضرر علة في تشريع عدد من الأبواب الفقهية كالعرية، حيث قالوا في علة جوازها أنها جوزت لرفع الضرر وكذلك الشفعة، حيث جعلوا الأخذ بها من باب دفع الضرر عن الشريك، حتى قالوا: يجبر المشتري على تسليم الحصة (المستشفع فيها)، وذكروا في علة مشروعية القسمة بأنها شرعت لدفع ضرر التشاجر الواقع بين الشركاء. وبناء عليه، ذهب الجمهور من أصحاب مالك من المدنيين والمصريين إلى مخالفته في قوله: بقسم البيت الصغير والحمام إذا دعا إلى ذلك أحد الشركاء فيه إلى القسمة، سواء صار له أو لصاحبه من ذلك ما فيه منفعة أم لا، وقالوا: إنه لا يقسم حمام، ولا فرن، ولا رحى، ولا بيت صغير، ولا بئر، ولا عين، حتى يصير منه لأقلهم نصيب ينتفع به ما لا ضرر فيه، معللين ذلك بأن ما لا ينتفع به عند القسمة فالقسمة فيه ضرر، ومحتجين بقوله صلى الله عليه وسلم: ”لا ضرر ولا ضرار”. واعتمادا على علة دفع الضرر، ذهب الحنفية في الصحيح من أقوالهم إلى الحكم بالقسمة إذا دعا إليها صاحب الأكثر، وإن تضرر بها شريكه، معللين ذلك بأن ضرر صاحب الأكثر بعدم القسمة أعظم من ضرر شريكه بها.
وانطلاقا من هذا، جعل الإمام مالك من أصوله في البيوع رعاية المقاصد والمصالح؛ لما يعود من الضرر على المتابعين في مخالفتها، قال ابن العربي وهو يتحدث عن أصول مالك في البيوع: (وأما المقاصد والمصالح فهي أيضا مما انفرد بها مالك دون سائر العلماء، ولابد منها لما يعود من الضرر في مخالفتها، ويدخل من الجهالة). واعتبارا لمقصد الشريعة في نفي الضرر عن الأموال، أسس الشيرازي قاعدته في الخيارات وهي: (كل خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فهو على الفور).

واعتمادا على النصوص النافية للضرر عن أموال الغير، بنى الحنابلة قاعدتهم الفقهية القائلة: (من اتصل ملكه بملك غيره متميزا عنه وهو تابع له ولم يمكن فصله منه بدون ضرر يلحقه، وفي إبقائه على الشريك ضرر، ولم يفعله مالكه، فلمالك الأصل أن يمتلكه بالقيمة من مالكه، ويجبر المالك على القبول، وإن كان يمكن فصله بدون ضرر يلحق مالك الأصل، فالمشهور أنه ليس له تملكه قهرا لزوال ضرره).

ولما كان إجراء العقود على أصولها التي شرعت لها يؤدي في بعض الحالات والوقائع إلى لحوق ضرر بأحد طرفي العقد، عمد الفقهاء إلى إدخال استثناءات على تلك الأصول لجعلها متفقة ومقصد نفي الضرر عن الأموال كالعارية مثلا، فإن الأصل فيها عدم اللزوم، إلا أنهم قالوا باللزوم فيها في بعض الحالات، منها لو أن رجلا استعار جدار غيره لموضع جذوعه ووضعها، ثم باع المعير الجدار، فإن المشتري لا يمكن من رفعها، وقيل: لا بد من شرط ذلك وقت البيع. ويندرج في هذا المعنى ما ذكره المازري في علة جواز العرية، حيث قال: (وعلة جوازها رفع الضرر، وذلك أن صاحب الحائط لا ينفك غالبا من دخوله لحائطه يجني ثمرته، وقد يؤذيه بإكثار المسير والمرور والرجو فسامح الشرع في هذه المحرمات لدفع هذا الضرر وصيانة المال، ودفع الضرر عنه يوجب الترخيص فيما الأصل فيه المنع).

ولما كانت حاجات الإنسان الكثيرة ومصالحه المتعددة تجعل من المتعذر عليه القيام بعدد منها في آن واحد، شرع له باب الوكالة ودعي إلى تعيين من ينويه في بعضها، ولما كان الإضرار من الوكيل بأموال موكله أمرا وارد الوقوع، لأن قيام الإنسان بمصالحه ليس كقيام وكيله بها، كان الوكيل معزولا عن غير المصلحة، ولا يمضي من تصرفاته كل ما فيه ضرر محض بأموال موكله، حيث قال الفقهاء في ذلك: (كل وكيل فهو معزول عن غير المصلحة الراجحة فلا يمضي من أفعاله إلا ما فيه مصلحة لموكله، إلا إذا وقع التنصيص على المصلحة وغيرها، وإذ ذاك يفعل ما فيه مصلحة مرجوحة. وأما الضرر المحض والعبث المحض، فلا يمضي من أفعال الوكيل شيء منها، ولو كانت ألفاظ الوكالة ما عسى أن تكون، لأنه لو فعل ذلك الموكل بنفسه لصار سفيها يجب تحجيره، وكل ما لا يفعله الإنسان بنفسه لا يفعله وكيله). ولهذا، لو قال الموكل للوكيل: بع مطلقا، فلا يبع بالعرض ولا بالنسيئة ولا بما دون ثمن المثل إلا قدرا يتغابن الناس بمثله.
* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر