يسأل البعض عن الفرق بين الهدية والرشوة، وفي تساؤلهم عجب.. كيف التبس أمرهما مع أن بينهما بُعدَ المشرقين؟ إذ أن الهدية باب من أبواب البر، والرشوة مهوى من مهاوي الإثم. والهدية سبيل من سبل الخير، والرشوة طريق من طرق الشر. والهدية حلال مستحب، والرشوة حرام مستكره. والهدية نَدَب إليها الشرع ورغّب فيها، والرشوة لعن الشرع فاعلها ورهّب منها. والهدية مآلها محبة بين الناس وتواد وصلاح حياتهم، والرشوة نتيجتها استغلال الناس بعضهم لبعض وبغض وفساد معاملاتهم وحياتهم. أفبعد هذا يشتبه أمرهما ويلتبس حكمها؟!
نعم، بعض الفاسدين سموا الرشوة هدية تزويرا وبهتانا، ولكنهم أعلم الناس بسخافة فعلهم وعظيم جرمهم!، وما مثالهم إلا من أخبرنا النبي صلّى الله عليه وسلم عنهم بقوله: ”ليَشْرَبَنّ ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها” رواه أحمد. فالخمر خمر مهما تفنّنوا في اختراع واختيار الأسامي لها، وكذلك الرشوة رشوة مهما تفنّنوا في تزيينها بالأسماء الجميلة أو البريئة: قهوة أو هدية أو غير ذلك!
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان واضحا في تبيين حكم الرشوة وهذا أمر معلوم، كما كان عليه السلام حاسما في غلق أبوابها، صارما في التعامل مع من حام حول حماها، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا يقال له: ابنُ اللُّتْبِيّة على الصدقة فجاء، فقال: هذا لكم وهذا أُهدِيَ لي. فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ”ما بال العامل نَبعَثُه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، ألا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أَيُهدَى له أَم لا، لا يأتي أحد منكم بشيء من ذلك إِلا جاء به يوم القيامة إِن كان بعيرا فله رُغَاءٌ، أو بقرة فلها خُوار، أو شاة تَيْعَرُّ”. ثم رفع يديه ثم قال: ”اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت” رواه البخاري ومسلم.
فلو جلس أي من أصحاب المسؤولية في بيته لم تأته الهدايا ولو طلبها، وإنما أهدي إليه لولايته ومنصبه! والحق أن هذا الإهداء هو تعيير له وتحقير لشأنه وتعريض بأنه لولا هذه المسؤولية والمنصب لكان حقيرا محتاجا لا يلتفت إليه، ولكن الطمع يعمي ويصم.
لقد اهتم العلماء من قديم لمسألة الهدايا التي تُقدّم للمسؤولين وأفردوها بالتأليف، لعلمهم بأنها مدخل من مداخل الشيطان ووسيلة من وسائل الفاسدين، فكتب الإمام التاج السُّبكي كتابه (فصل المقال في هدايا العمال)، وكتب الإمام ابن حجر الهيثمي كتابه (إيضاح الأحكام لِما يأخُذه العمّال والحكّام)، وكتب الإمام عبد الغني النابلسي رسالته (القضية في الفرق بين الرشوة والهدية)، وكتب غيرهم كتبا غير ما ذكر. وهذا محصل ما ذكروه في حكمها، قالوا: هدايا المسؤولين وذوي المناصب [رئيس بلدية أو دائرة أو والي أو وزير أو رئيس أو قاضي أو مستشار أو مدير مؤسسة عام أو فرعي أو جهوي أو مسؤول منظمة أو جمعية أو حزب أو رئيس مصلحة أو عون إداري ...إلخ] أقسام: الأول: هدية من له عادة بالإهداء إليه قبل المنصب، وليس له مصلحة في مجال مسؤوليته، ولا توهّم بقرينة أنها تقدمة لمصلحة، ولا زاد في هديته على عادته لا في الوصف ولا في القدر، فالأصح هنا جواز القبول، ولكنه مكروه، والأَولى تركُه سدا للذريعة وقطعا لطرق الفساد. وفي زمننا هذا الذي استشرى فيه الفساد لا يجوز حتما حتى في هذه الحالة قطعا لسُبل الفساد. الثاني: هدية من ليس من أهل ولايته وليس من عادته الإهداء إليه قبل تولي المنصب، وليس له عنده مصلحة، فيكره له قبول هديته، وقيل تحرم. وفي زمننا هذا يحرم قولا واحدا. الثالث: هدية من له عنده مصلحة وتعامل، فيحرم إجماعا قبولها مطلقا، ولو ممن له عادة بالإهداء له قبل المنصب والمسؤولية. والرابع: هدية مَن هو من أهل ولايته، وليس له عادة بالإهداء إليه قبل المنصب والمسؤولية، فيحرم عند كثيرين قبولها، وهذا هو الصحيح الذي لا نتعداه في زمننا هذا.
لقد تقرر عند العلماء أن الفتوى تتغير بحسب تغير الظروف والأحوال والأزمان، وفي زمننا هذا الذي يمكن أن نطلق عليه ”زمن الرشوة والفساد” لا يسعنا إلا تحريم الهدية للمسؤولين ما داموا في مناصبهم في كل الأحوال والحالات والظروف سدا للذريعة وتضييقا على الفاسدين والمفسدين. وهذا ما فهمه خيار الصحابة والتابعين، حيث سُئِل ابن مسعود رضي الله عنه عن السحت، قال: ”الرجل يهدي إِلى الرجل إِذا قضى له حاجة”. وكتب عمر رضي الله عنه إلى عماله: ”ألا إن الهدايا هي الرشا، فلا تقبلن من أحد هدية”. وقال الحسن البصري رحمه الله: ”إِذا دخلت الهدية من باب خرجت الأمانة من الروزنة” [أي الكوة أو النافذة]. وهذا مصداق الأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة: عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا”. وعنِ بُريدة بن الحصيب عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ”من استعملناهُ على عمل فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول” رواهما أبو داود وغيره. وعن أبي حُمَيد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”هدايا العمال غلول” رواه أحمد. وليس بعد هذا البيان بيان.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
25/12/2025 - 00:41
الخبر
25/12/2025 - 00:41
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال