اسلاميات

تذكر الموت.. دليل السائرين إلى رب العالمين

مما اتفق عليه العقلاء أن أعظم عقاب ينزل بالأمم ليس طوفانا يُغرِق، أو نارا تُحرق، أو زلزالا طاغيا، أو ريحا صرصرا عاتية؛ فإن ذلك كله من الآيات الربانية التي ينذر الله بها عباده، غير أن هناك ما هو أشد من ذلك، وهو أن يغفل العبد عن ربه فيقسو قلبه.

  • 293
  • 2:50 دقيقة
الشيخ عبد المالك وضح*
الشيخ عبد المالك وضح*

مما اتفق عليه العقلاء أن أعظم عقاب ينزل بالأمم ليس طوفانا يُغرِق، أو نارا تُحرق، أو زلزالا طاغيا، أو ريحا صرصرا عاتية؛ فإن ذلك كله من الآيات الربانية التي ينذر الله بها عباده، غير أن هناك ما هو أشد من ذلك، وهو أن يغفل العبد عن ربه فيقسو قلبه.
إن من العجب العجاب أنك لو سألت أي أحد لأقر بهذه الحقيقة، وهي أن يقر بأنه يجد في قلبه قساوة، وأنه لم يعد يجد للإيمان حلاوة، تُرى ما الذي أصابنا؟ لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سوف تصاب بشلل في معظم أجزائها، حتى يحل العدو بفِنائها: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأَكَلَةُ على قصعتها”، فقال قائل: يا رسول الله، أمن قِلة بنا يومئذ؟ قال: “أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن”، قالوا: وما الوهن؟ قال: “حب الحياة وكراهية الموت”.

وهكذا، فما من بلية ولا رزية إلا وسببها حب الدنيا والاغترار بما هي عليه من زُخرف وزينة، اسأل تارك الصلاة لِمَ لا يصلي! واسأل مانع الزكاة لِمَ لا يؤدي حق الله في ماله! واسأل الراشي لِمَ رشى، وآكل الربا لِمَ أكل، إنه حب الدنيا وكراهية الموت.
اعلم، أيها الفاضل، أنك لن تجد دواء أنجع لإيقاظ قلبك من سكرته، وتنبيهه من غفلته مثل ذكر الموت، فذكره ورد في فضله نصوص كثيرة، منها: أن ذكر الموت يدفع للعمل ويقطع الأمل: “أكثروا من ذكر هادم اللذات، فإنه ما ذكره أحد في ضِيق إلا وسعه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه”، ومنها أنه دليل على عقل المرء وفطنته، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت مع رسول الله فجاءه رجل فقال: يا رسول الله؛ أيُّ المؤمنين أفضل؟ قال: “أحسنهم خُلقا”، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: “أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الأكياس”، ومنها أن ذكر الموت من أعظم مظاهر الحياء من الله: “استحيوا من الله حق الحياء” قال: قلنا: يا رسول الله، إنا نستحيي والحمد لله، قال: “ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء”.

ومن فضائل ذكر الموت أنه من أعظم وصايا المصطفى صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فما كان يجد شيئا أنفع لهم من أن يوصيهم بذكر الموت، يقول عبد الله بن عمر: أخذ رسول الله بمنكِبي ثم قال: “كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك في أهل القبور، إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من صحتك قبل سقمك، ومن حياتك قبل موتك، فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غدا”.

وبيّن صلى الله عليه وسلم أن الموت يسابق العبد، وبالتالي فما على العبد إلا أن يسابقه بالإكثار من العمل الصالح، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: “بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم أو أمر العامة”. يقول الحسن البصري رحمه الله: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا ريب فيه من الموت، فكل الناس على يقين أنهم ميتون لا محالة، فإذا بك تراهم يعملون أعمال المخلَّدين، ورحم الله الخليفة هارون الرشيد قال وهو على فراش الموت: أريد أن أرى القبر الذي سأدفن فيه، فحملوه إلى قبره، فنظر إليه وبكى، والتفت إلى مَن حوله فقال: ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال وهو يبكي: يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه.

* إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي