الفراغ نعمة عظمى حري بالعبد اغتنامه فيما يفيده، وقد أرشد المولى سبحانه نبيه بقوله سبحانه: {فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب}، وفي الصحيح: ”نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ”، ويقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: ”اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك”.
يقول ابن القيم رحمه الله: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبيّن حلو الثمار من مرها. فكم كان الفراغ سببا في الانحراف بكل ضروبه، والفساد بشتى صوره عند عدم استثماره، فهو منة ونعماء، ولكن إذا استغل في معصية الله فهو نقمة وبلاء.
إن الترفيه البريء والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه؛ بل قد يكون مطلوبا أحيانا لأغراض شرعية، كما في حديث حنظلة: قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رَأْيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”وما ذاك؟” قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأْي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة”.
فالإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروِّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم بالوسائل المباحة في ذلك شرعا، أما أن يُستغل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل والمبادئ فذاك ما لا ينبغي.
لقد كان السلف رضوان الله عليهم أحرص الناس على كسب الوقت وشغله بجلائل الأعمال، مما أورثهم حضارة عريقة الجذور، آتت أكلها علما وفتحا، وعزا ومجدا. يقول الحسن البصري رحمه الله: ”أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم”، ونقل عن عامر بن قيس أحد التابعين أن رجلا قال له: تعال أكلمك، قال: أمسك الشمس، يعني أوقفها لي واحبسها عن المسير لأكلمك، فإن الزمن سريع المضي ولا يعود. ويقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ”إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما”.
وكانوا يجتهدون في الترقي من حال إلى حال خيرا منها، وفي هذا يقول بعضهم: ”من كان يومه كأمسه فهو مغبون”، ويقول آخر: ”من علامة المقت ضياع الوقت”، وقال بعضهم: ”من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أصله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه”.
تلك شذرات عبقة مما كان عليه صالحو الأمة، فقد كان الوقت عندهم أغلى من كل جوهر نفيس، بل هو الحياة كلها، وذلك لأن الماديات يمكن استرجاعها، بينما الثانية من الزمن لا يمكن أن تعود، وكل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت، وقديما قيل: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.. والله ولي التوفيق.
*إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي
الخبر
22/06/2025 - 23:08
الخبر
22/06/2025 - 23:08
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال