المجاهرة بالمعاصي استخفاف بمن عُصي، واستخفاف برسول الله، وبالمجتمع، وإظهار العناد لأهل الطاعة، والمعاصي تذل أهلها وتفضحهم في الدنيا قبل الآخرة، وللأسف، فإن المجاهرة بالمعصية والتبجح والمفاخرة بها صارت سمة من سمات البعض.
عند الشيخين يقول المعصوم عليه الصلاة والسلام: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه». قال الحافظ ابن حجر: ”المجاهر هو الذي أظهر معصيته وكشف ما ستر الله عليه فيحدث بها، أما المجاهرون في الحديث الشريف فيحتمل أن يكون بمعنى من جهر بالمعصية وأظهرها، ويحتمل أن يكون المراد الذين يجاهر بعضهم بعضا بالتحدث بالمعاصي، وبقية الحديث تؤكد المعنى الأول”.
وورد في الموطأ من حديث زيد بن أسلم أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور، فقال: ”فوق هذا” (أي: أصلب منه)، فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: ”دون هذا”، فأتي بسوط قد ركب به ولان (أي لا هو يابس ولا هو ليِّن) فأمر به رسول الله فجلد ثم قال: ”أيها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نُقِمْ عليه كتابَ الله”.
إن الذنوب والمعاصي عاقبتها وخيمة: {فكُلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا}. وأعظم الذنوب المجاهرة بها، ومعناها أن يرتكب الشخص الإثم علانية أو يرتكبه سرا فيستره مولاه، ولكنه يخبر به بعد ذلك مستهينا بستر الله له: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما}. فالله تعالى لا يحب لأحد من عباده أن يجهر بالأقوال أو الأفعال السيئة إلا من وقع عليه الظلم، فإنه يجوز له أن يجهر بالسوء من القول في الحدود التي تمكنه من رفع الظلم عنه دون أن يتجاوز ذلك، قال الإمام القرطبي رحمه الله: والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه، ولكن مع اقتصاد، فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا.
ويروي أبو داود في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنها سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه، أي على السارق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”لا تسبخي عنه” أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه، وعقد الإمام البخاري بابا قال فيه: باب لصاحب الحق مقال، ويُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ”لَيُّ الواجد يحل عقوبته وعرضه”، فالمماطلة من القادر على دفع الحقوق لأصحابها ظلم يبيح للناس أن يذكروه بالسوء.
وأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن المجاهرة بالمعاصي لها عقوبات في الدنيا قبل الآخرة، يقول ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ”يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم”. فإشاعة المعاصي والتباهي بها يحمل الناس الآخرين على الوقوع فيها، والشريعة حذرت من المجاهرة بالمعصية، لما في ذلك من آثار خطيرة، فالمجاهر يدعو غيره ويجذبه، ويزين له ويغريه؛ ولذلك كانت المجاهرة بالمعصية جريمة نكراء، وخطرا محدقا بالأمة جمعاء.. والله ولي التوفيق.
* إمام مسجد عمر بن الخطاب - بن غازي - براقي
الخبر
04/05/2025 - 22:53

الخبر
04/05/2025 - 22:53
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال