جاء طوفان الأقصى بالحق، فأسقط أوراق التوت التي تغطي عورات البشرية، لقد فضح طوفان الأقصى الكيان الخبيث فضيحة ما كان يتوقع حدوثها أبدا، وهو الكيان الذي قام على خرافات وأساطير، وقام على مجازر وإبادات، وقام أيضا على دعاية (Propaganda) خبيثة، من قبله ومن قبل الغرب المنافق، صرفت في برامجها ملايير الدولارات، صورت الباطل حقا والحق باطلا، واحتلت عقول وقلوب ملايين من البشر، في قارات العالم، فصاروا يعتقدون بتفوق اليهود والصهاينة، ويعتقدون أن لهم الحق المطلق في فلسطين، فجاء طوفان الأقصى لينسف هذه الدعاية، وينسف جهودها، وينسف ما حققته من نتائج.
وفضح طوفان الأقصى الغرب المنافق الخبيث، الذي لا يستطيع العيش دون الاقتيات من نهب ثروات الأمم، والذي رفع الشعارات البارقة الخادعة من حقوق الإنسان والحيوان والنبات والديمقراطية والحرية... (إلخ معجمه السخيف) بيده، وداس بقدمه على كرامة الإنسان وكل شيء جميل في هذا الوجود، فجاء الطوفان المبارك ليبين للناس كذب وتدليس الغرب للحقائق، وامتهانه للإنسان، وعنصريته المقيتة، ويعرّيه أمام شعوبه وأمام كل الناس، فيظهر على حقيقته الإجرامية الاستغلالية، ويظهر عنصريته المقيتة، وكيله بمكيالين، وكذبه على التاريخ وعلى الواقع، وحربه الشرسة على الحق والعدل.
وفضح طوفان الأقصى الحكومات العربية والإسلامية، وأكد ما كان معروفا عند كل الناس، من كونها حكومات عميلة، اصطنعها مستعمر الأمس؛ لترعى مصالحه وتستعبد شعوبها، فهي أسد على شعوبها وفي الحروب جرادة!، لا شرعية لها إلا رضى مستعمر الأمس، فهي تسعى لترضيته وتحقيق مخططاته وطحن شعوبها وآمالهم. كما فضح طوفان الأقصى الشعوب العربية والإسلامية، وأظهر هشاشتها وضعفها، وأظهر إلى أي مدى روضت واخترقت من قبل الأنظمة العميلة والغرب المهيمن، ففقد الكثير منها قيمه الإسلامية، ومشاعره القومية، وانخرط الكثير منها في خطط الغرب التقسيمية القائمة على النزعات العرقية والنزغات الطائفية، فصارت كل أقلية تسعى للاستقلال أو الاستحواذ، ومستعمر الأمس يضحك عليهم غير مصدق أن الاستحمار بلغ منهم هذا المدى!.
وفضح الطوفان أيضا كل مكونات المجتمعات العربية الإسلامية، فضح عجز النخب وقصورها واستلابها، وتطبيعها مع الواقع الذي يفترض فيها أن تسعى لإصلاحه، ولكن أنى للنخب أن تسير في سبيل الإصلاح وهو سبيل البذل والتضحية في حين قد صار همّ نخبنا مصالحهم الشخصية ومنافعهم المادية إلا قليلا قليلا، وفي مقدمة النخب التي فضحها الطوفان المبارك بلا ريب العلماء والحركات الإسلامية، الذين أكدوا أنهم صاروا أعجز ما يكون، وأنهم رضوا بهامش الحياة، والتفرج على الأحداث، فقد عمل فيهم سيل السلفية والمدخلية الذي كان حربا على علماء الأمة وتياراتها ومذاهبها وحركاتها، وانشغلوا بردّ شبهاته وبدعه وضلالاته عن أولويات الدعوة والإصلاح، حتى تجاوزهم الزمن، وتباعدت عنهم الأجيال الجديدة، وهدروا جهودهم في المعركة الخطأ!.
لقد فضح طوفان الأقصى المبارك أمورا كثيرة، لا يمكن الإحاطة بها، (وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا، وينبيك عن الفضائح من لم تزود)، لكن لا بد من التنبيه على فضيحة صلعاء أظهرها الطوفان المبارك، فقد فضح عقولنا وتفكيرنا إلا من رحم ربك، إن ما يحدث لإخواننا في غزة فضيحة لا تغسلها المحيطات، ومثلها عندي فضيحة عقولنا وتفكيرنا، إذ في خضم هذه المأساة وقبلها وبعدها يدهش المرء من مستوى عقول وتفكير كثير من المسلمين، وهو يتابع ما يخوضونه من جدالات، وما يهتمون به من قضايا، ومستوى نقاشاتهم وتحليلاتهم، وكيف تروج عندهم أفكار وآراء؟، وكيف يتبعون بعض المتحدثين في الدين أو في السياسة أو في غير ذلك؟، وكيف يصير بعض المعتوهين مراجع وعلماء وشيوخا ومفكرين عندهم؟، وكيف يصدقون بعض الدعايات والخزعبلات؟، وكيف تشيع فيهم تيارات وتوجهات؟، وكيف يعلو عندهم سفلة وفارغون ومعتوهون؟ إلى آخر المظاهر الغريبة العجيبة، التي تنبئ أن تفكيرنا عموما يحتاج إلى إصلاح، وعقولنا تحتاج إلى إعادة بناء وتجديد وتفعيل، فلو كانت عقولنا سليمة، وتفكيرنا سديدا؛ لكنا ربحنا الكثير من الجهد والوقت التي أضعناهما في سفاسف الأمور، والقضايا الهامشية، والخرف الفكري، والهذيان!. والعجب أن هذا حال الأمة التي دينها دين التفكير والعقل، وكتابها هو كتاب التفكير والعقل، فقد جاءت مادة (ع ق ل) في القرآن الكريم 49 مرة، وكم تكرر فيه قوله تعالى: {أفلا تعقلون}، {لعلكم تعقلون}، {إن كنتم تعقلون}، {أفلم تكونوا تعقلون}، بل إن القرآن الحكيم يجعل حجته القاهرة للبشر: التفكير، وفي هذا يقول الله تعالى لنبيه الكريم: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا}، فكروا تفكيرا سديدا تهتهدوا، هذه رسالة الإسلام، فكيف وصل حال المسلمين العقلي والتفكيري إلى هذا الحضيض؟!. نعم لقد فضح الطوفان عقولنا وتفكيرنا كما فضح جوانب أخرى من حياتنا، وليس أمامنا إلا الإصلاح والتجديد، وهذا لا يكون إلا بنقد القديم وفكر جديد.
وقبل أن أقول للقلم أقصر، أنبه إلى معنى جليل، لم يُحتفَ به وربما لم يُنتبه له، ذلك أني أحسب أن كل المسلمين يحفظون قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، ولكن الفهم الرائج له أراه قاصرا، ذلك أن أكثر من تكلم على هذا الحديث قصر صلاح القلب على صلاحه من حيث الإيمان والعبادات القلبية، وغفل عن صلاحه من حيث التفكير والتعقل، مع أن من المعلوم أن أكثر علمائنا وكثير من العلماء المعاصرين –حتى من الغربيين- يرون أن القلب هو محل التفكير والتعقل، وما الدماغ إلى خزان معلومات ووسيلة؛ لظاهر قوله تعالى: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون}، {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه}، {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون}، {وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون}، {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها}، فهذه الآيات وغيرها تدل على أن مناط الفقه والفهم والعلم والتعقل هو القلب، وعليه فصلاح القلب الذي يصلح به الجسد كله كما أخبرنا المعصوم عليه السلام يشمل صلاح تعقله وتفكيره بلا شك كما تقرره الآيات البينات، مما يستوجب على المسلمين إعطاء الأهمية القصوى لإصلاح التفكير وتفعيله مع تجديد الإيمان وتفعيله، من هنا نبدأ ومن هنا ننطلق. ولنا عودة لهذه الجزئية بتوفيق الله تعالى.
* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
31/07/2025 - 00:06
الخبر
31/07/2025 - 00:06
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال