غزوات النبيِ الرحيم صلى الله عليه وسلم العظام كثيرة: بدر وأحد وفتح خيبر وفتح مكة وتبوك.. إلخ، وقد تكلم القرآن العظيم على أحداثها في سوره إلا أنه لم تُسمَ سورة باسم غزوة من الغزوات إلا غزوة الأحزاب (الخندق)، حتى سورة الفتح أغلب المحققين على أن المقصود بها هو فتح الحديبية وليس فتح مكة، وحتى على رأي من يرى أن المقصود بها فتح مكة، يبقى تميّز تسمية سورة باسم غزوة الأحزاب دون غيرها من الغزوات لافتا؛ لأن فتح مكة حقيق بأن تسمى به سورة، فهو تتويج لكل ما سبقه من الجهاد والتضحيات، أما غزوة الأحزاب فكان فيها نصر محدود ظاهريا بعد حصار وبلاء شديد، بل بعد حرب دفاعية عن عاصمة المسلمين التي أطبق عليها الكفر من كل جانب.
إن المهم أن يسأل المسلم والعاقل عن سر اختصاص هذه الغزوة بتسمية سورة بها؟، لماذا هي دون غيرها من الغزوات؟؛ لأن القرآن الحكيم إذا ذكر شيئا عنوانَ سورة أو في ثناياها فهو يريد من المسلم أن يتدبّر فيه، وأن يذكره فلا ينساه؛ ذلك أن الأصل في المسلم أن يداوم على قراءة القرآن وتلاوته: {.. وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن..}، وأن يطيل التدبر فيه: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب}، وأن لا يتذكر المعاني المذكورة فيها في كل وقت، لا في المناسبات فقط، فما القرآن العظيم إلا ذكر: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}، فمثلا: الحج والصيام مذكوران في سورة البقرة، ولكن القرآن يريد من المسلم أن يذكرهما في كل السنة لمقاصد كثيرة: تشوّقا إليهما، واستحضارا لنية أدائهما، وتعبّدا بدعاء الله أن يوفّقه للقيام بهما.. إلخ، وبهذا تتبين غفلة كثيرِ من الأئمة الذين لا يقرؤون مثل هذه الآيات إلا في مناسباتها عن المقصود بذكرها في الذكر العزيز. وكذلك هذه الغزوة سميت سورة بها لنتدبر في أمرها، ونتفكر في أسرارها ونذكرها ونتذكرها.
إن هذه الغزوة العظيمة تميزت بكونها غزوة دفاعية محضة، تحصّن فيها المسلمون في المدينة وتألّبت عليهم قوى الكفرِ الوثنية (قريش وغطفان) والكتابية (اليهود)، وجاوز تعداد جيش الحصار 10000 مقاتل في رواية و20000 في رواية أخرى، وأعدّ النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه ما استطاعوا من عدة، وباغتوا جيش الكفر بحفر الخندق الذي اقتبسوه من الفرس بتوجيه من سيدنا سلمان رضي الله عنه كما هو معلوم، وعانوا في حفره معاناة شديدة قرابة شهر، في جوع ومسغبة وشدة، حتى أن بعض الصحابة شكى للنبي الكريم عليه السلام عضة الجوع، وكشف عن بطنه حيث ربط عليه حجرا لكظم سَورة الجوع، فإذا بالنبي الكريم فداه أبي وأمي يكشف عن بطنه فإذا به يربط حجرين على بطنه الشريف؛ ليعطيهم القدوة من نفسه، وليكون القائد القدوة الذي يعيش ما يعيشه جنده.
وعلى كل لا يسمح المقام بسرد قصة الغزوة ومن أرادها فعليه بكتب السيرة وهي متوفرة وكثيرة، وإنما يهمنا التنبيه على الأثر الاستراتيجي لهذه الغزوة، والتحوّل الجذري لموازين الصراع بين الحق والباطل الذي نتج عنها، ما رشحها لتكون اسما لسورة عظيمة من سور القرآن الحكيم، وفهم طوفان الأقصى في ضوء ذلك.
فقد اشترك معها في أنه انطلق من أسر حصار غاشم ظالم -طال أمدُه- من كل الجهات: برا وبحرا وجوا، وفي وصف اجتماع الأحزاب نقرأ: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم}. وأعدّ المجاهدون فيه لجيش الاحتلال أنفاقا بدل الخندق حفروها في معاناة وشدة وجوع ومسغبة لسنوات؛ لأنها المناسبة لطبيعة المعركة. واشتد الأمر على المسلمين الغزّيين في طوفان الأقصى كما اشتد على الصحابة في غزوة الأحزاب، حتى أن وصف القرآن للغزوة ينطبق تماما على حال المسلمين مع طوفان الأقصى: {وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابُتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالا شديدا}، ولا نغفل ونحن نتلوا هذه الآيات العظيمة أنها تصف حال الأبطال الصناديد من الصحب الكرام الذين دوّخوا الدنيا وأعادوا رسم تاريخها.
وثمة نقطة هامة اشترك فيها طوفان الأقصى مع غزوة الأحزاب وهي نجوم قرن النفاق وعلوّ نُعاق المنافقين في الغزوة، كما تعرّت الخيانة وافتضح التخذيل في الطوفان، واقرأ: {وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا}، {قد يعلم الله المُعوِّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلُمّ إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا * أشِحّة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يُغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحّة على الخير..}، {ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا}، وهذا ما يفعله ويقوله دعاة التطبيع وأبواق التخذيل اليوم بلغة معاصرة، وفي مقابل هؤلاء قال المؤمنون لما رأوا الأحزاب، ويقولون اليوم وهم يرون تواطأ أحزاب دول الغرب مع الصهاينة: {.. هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}.
نطوي الكلام على تفاصيل أحداث الغزوة، فليس المقام مقام ذلك كما ذكرت سابقا؛ لنقف على النتيجة: بعد كل تلك الشدة والمعاناة والتضحيات والزلزال الشديد وتكالب الأعداء، وكل ذلك الصبر والصمود والفداء كانت نتيجة غزوة الأحزاب مذهلة، لخصها قول النبي الكريم عليه السلام حين أجلى الأحزاب عنه: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» رواه البخاري، وهذا تعبير دقيق عن التغيّر الاستراتيجي والتحوّل الجذري في طبيعة المعركة بين الحق والباطل، الذي أحدثه صمود الثُّلة المؤمنة في الأحزاب، وهو تنبيه إلى أن العبرة في تقييم الوقائع والأحداث هو في الأثر الاستراتيجي والتحوّل الجذري الذي يتمخض عنها، وهذا بالضبط ما يميز معركة طوفان الأقصى عما سبقها من معارك المقاومة الباسلة في الأرض المباركة وأكناف بيت المقدس، حيث نقل أبطال القسام والمقاومة معركتنا مع الصهاينة إلى مرحلة: نغزوهم كما يغزوننا، ونسير إليهم كما يسيرون إلينا، وهي نُقلة استراتيجية عظيمة وتحوّل جذري عميق يوصلان إلى مرحلة: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم»، التي يعقبها النصر المبين في بضع سنين. {ولتعلمن نبأه بعد حين}.
*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
الخبر
08/10/2025 - 22:18
الخبر
08/10/2025 - 22:18
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال