يتصاعد الغضب الشعبي في المغرب أسبوعا بعد آخر، فيما يواصل نظام المخزن سياسة الهروب إلى الأمام، غارقا في أزماته البنيوية، ومواجها جيلا جديدا من الشباب، كسر حاجز الخوف وخرج ليندد بالفساد المستشري في أروقة المخزن، مطالبا بالكرامة والعدالة الاجتماعية، متحديا آلة القمع التي لم تتوقف منذ اندلاع مظاهرات "جيل زد" أواخر سبتمبر الماضي.
ففي مختلف المدن المغربية، من الدار البيضاء إلى طنجة، ومن الرباط إلى مراكش وفاس، عادت الحشود إلى الشوارع نهاية الأسبوع (أمس وأول أمس) مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووضع حد لفساد بات ينخر مؤسسات الدولة من أعلى الهرم إلى قاعدته. ومع تراجع زخم التظاهر في بعض المناطق، بسبب سياسة القمع والتخويف، إلا أن شعلة الحراك لم تنطفئ، بل تحولت إلى وعي جماعي يتحدى الصمت المفروض منذ عقود.
ودقت المنظمات الحقوقية المغربية والدولية ناقوس الخطر، مؤكدة أن ما يجري هو "تصفية حسابات سياسية" ضد شباب لم يرفعوا سوى شعارات الحرية والعدالة. فحسب الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، بلغ عدد الموقوفين منذ بداية الاحتجاجات أكثر من ألفي شخص، بينهم مئات القاصرين الذين يتابعون في قضايا ملفقة. ووصف التقرير الأخير للجمعية الاعتقالات بأنها "عشوائية ومنافية للقانون" والأحكام القضائية الصادرة بأنها "قاسية وردعية تهدف إلى إخضاع الشارع وإرهاب كل من يفكر في الاحتجاج".
لكن، ورغم القبضة الأمنية، يرفض المحتجون الانكسار، حيث نظم الشبان الثائرون في الرباط وقفة احتجاجية قرب مبنى البرلمان وسط أهازيج وهتافات تطالب بالحرية على غرار: "المعتقل ارتاح ارتاح، سنواصل الكفاح"، بينما صدحت حناجر شباب الدار البيضاء بشعار "هي كلمة وحدة، الفساد عطا الريحة"، في إشارة إلى تفشي الظاهرة في جسد المخزن. وتختزل هذه الهتافات، حسب المراقبين، جيلا لم يعد يصدق الوعود الرسمية التي تحولت إلى ما يشبه النكات المتكررة في وجه واقع يزداد بؤسا.
أما المخزن فيعيش حالة ارتباك، محاولا تلميع صورته بإعلانات إصلاح "وهمية"، بينما يغرق في سياسات ترقيعية فقدت معناها، على حد تعبير المتظاهرين. فالخطاب الرسمي المليء بالشعارات "المنمقة" لم يعد قادرا على إخفاء حقيقة الانهيار الاجتماعي كالبطالة وغلاء المعيشة والفساد وانعدام ثقة شامل في مؤسسات الدولة. أما حديث السلطة عن الإصلاح فصار، كما قال أحد النشطاء، "مسرحية سيئة الإخراج لم تعد تثير سوى السخرية".
وحتى في الخارج، لم يعد المخزن بمنأى عن الغضب الشعبي، فقد شهدت العاصمة البلجيكية بروكسل مسيرة ضخمة نظّمها مغاربة المهجر تخليدا لذكرى قادة حراك الريف، أحمد الزفزافي ومحسن فكري، ورفضا للقمع في الداخل وتضامنا مع حراك "جيل زد". الحشود التي جاءت من مختلف العواصم الأوروبية رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة وأكدت أن قضية الحراك الريفي لم تعد مسألة حقوقية فحسب، بل أصبحت قضية كرامة وطنية وعدالة تاريخية.
ومن داخل سجنه، بعث ناصر الزفزافي رسالة مؤثرة قال فيها: "لن نركع لوطن يُختزل في أشخاص ولن نسكت عن دولة تعامل الأحرار كخصوم. الحرية ليست جريمة والمطالبة بالكرامة ليست تمردا".
وعبر الزفزافي عن تضامنه مع حراك "جيل زد"، منددا بما وصفه بـ"استبدال الحوار بالقمع والاستماع بالاعتقالات" ومعتبرا أن هذا النهج يعكس عقلية "بعدي الطوفان" التي لن تجلب للبلاد سوى مزيد من الشقاء. ودعا الزفزافي إلى إطلاق سراح جميع المعتقلين الذين شاركوا في الاحتجاجات السلمية، مؤكدا أن صوتهم يعبر عن جيل يرفض الاستبداد ويؤمن بالحرية والكرامة.
ويجد نظام المخزن نفسه اليوم في مواجهة جيل جديد لم يعش زمن الخوف، جيل رقمي يعرف العالم ويدرك أن التغيير ممكن، ولم تعد السجون تخيفه ولا الإعلام الرسمي يضلله.
ففي شوارع المغرب اليوم، يتشكل وعي جديد يتحدى الخوف، بينما يبدو المخزن عالقا في ذهنية الماضي، يرد على مطالب اجتماعية مشروعة بعصا الأمن، غير مدرك أن سياسة القمع لا تقتل الأفكار بل توقظها.
يقول أحد المتظاهرين إن ما يحدث في المغرب ليس مجرد احتجاجات معيشية، بل ثورة وعي ضد منظومة شاخت سياسيا وأخلاقيا. وتابع آخر أن "جيل زد" لم يعد يطلب الفتات، بل يطالب باستعادة وطن اختطفه الفساد والاستبداد.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال