العالم

ليبيا..رهينة للصراعات الأجنبية

مخاوف من انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة في ليبيا.

  • 1305
  • 3:39 دقيقة
الصورة: وكالات
الصورة: وكالات

عادت المخاوف من انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة في ليبيا، في ظل صراع تغذيه أطراف إقليمية ودولية تتنافس على النفوذ والثروات.

فمنذ دخولها المشهد الليبي عبر مجموعة "فاغنر"، عملت موسكو على ترسيخ موطئ قدم استراتيجي لها في ليبيا، مستغلة حالة الفراغ السياسي والانقسام العسكري بين شرق البلاد وغربها. ومع إعادة هيكلة وجودها في إفريقيا، باتت روسيا تسعى اليوم إلى نفوذ مؤسسي مباشر، تجلى بوضوح في الاستقبال الرسمي الرفيع للواء المتقاعد خليفة حفتر ونجله صدام خلال زيارتهما الأخيرة إلى موسكو لحضور احتفالات "عيد النصر".

يترجم هذا الموقف رغبة روسيا في توسيع حضورها الجيوسياسي، خصوصا في شرق ليبيا الغني بالنفط، وتأمين منفذ دائم على البحر المتوسط، مع ربطه بمحور لوجستي يمتد إلى عمق الساحل الإفريقي. وفي هذا السياق، تُستخدم ليبيا كورقة ضغط في مواجهة الغرب، وضمن حسابات التفاوض الأوسع بين موسكو والعواصم الغربية.

وفي سياق متصل جاء التدخل التركي في الغرب الليبي ليزيد من حدة الاستقطاب. فبعد توقيع اتفاقية أمنية وبحرية مع حكومة الوفاق في نهاية 2019، أرسلت أنقرة قوات ومستشارين عسكريين وطائرات مسيّرة دعمت بها حكومة طرابلس، ما ساهم في صد هجوم حفتر. إلا أن هذا التدخل لم ينه الصراع، بل أدخل ليبيا في حلقة جديدة من المواجهة الإقليمية، حيث دفع دولا مثل الإمارات ومصر وفرنسا إلى تكثيف دعمها لقوات الشرق، ليصبح الصراع الليبي ساحة مواجهة غير مباشرة بين أطراف إقليمية متنافسة.

ومع تغير التوازنات الإقليمية، تبنت أنقرة سياسة أكثر براغماتية بحلول عام 2025، اتجهت فيها إلى لعب دور الوسيط بين الأطراف الليبية. وجاءت زيارة صدام حفتر إلى أنقرة في أفريل الماضي ولقاؤه بكبار المسؤولين الأتراك ليؤكدا هذا التحول، حيث تم الاتفاق على برامج تدريب عسكري وتوريد معدات، بما فيها طائرات مسيرة.

يعكس هذا التحول، حسب متابعين، رغبة تركيا في تعزيز نفوذها عبر تقليل التوترات بين الشرق والغرب الليبيين وضمان مصالحها في مشاريع إعادة الإعمار والطاقة، مع توسيع نفوذها في شمال إفريقيا، في منافسة مباشرة مع فرنسا ومصر.

الدور الإماراتي المشبوه

على الصعيد الإقليمي لعبت الإمارات العربية المتحدة دورا تخريبيا واضحا من خلال دعمها العسكري والسياسي الواسع لقوات الشرق بقيادة المشير خليفة حفتر، في تحد للقرارات الدولية التي تحظر تزويد الأطراف الليبية بالسلاح. لقد شكل هذا الدعم عاملا حاسما في تأجيج الصراع، حيث زوّدت أبوظبي حفتر بأسلحة متطورة، بينها طائرات مسيّرة (مثل "وينغ لونغ" الصينية) ومدرعات وأنظمة دفاع جوي، نقلت عبر جسور جوية سرّية تم توثيقها في عدة تقارير للأمم المتحدة.

وجاء هذا الدعم تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب" و"محاربة الإسلام السياسي"، لكن واقعيا ساهم في تمكين طرف عسكري من السعي للسيطرة على العاصمة طرابلس بالقوة في أفريل 2019، وهو ما أدى إلى اندلاع حرب أهلية دموية دامت قرابة عام ونصف، خلفت آلاف الضحايا ودمّرت البنى التحتية وعرقلت مسار الحوار السياسي.

إلى جانب الدعم العسكري، مارست الإمارات دورا تخريبيا في المسار السياسي، إذ عملت على إفشال جهود الوساطة الدولية عبر تمويل حملات دبلوماسية وإعلامية تروّج لحفتر باعتباره "رجل الاستقرار" رغم تجاوزه الشرعية المعترف بها دوليا، كما دعمت محاور إقليمية مناوئة لحكومة الوفاق السابقة وشجعت على الحلول العسكرية بدلا من التوافق السياسي.

ولم يكن هذا التدخل بمعزل عن طموح إماراتي أوسع للهيمنة على شمال إفريقيا وشرق المتوسط، في إطار صراع جيوسياسي مع تركيا وقطر، ما حوّل ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي بالوكالة، كما اتهمت تقارير أبوظبي بتمويل حملات تهدف إلى تقويض الديمقراطية الوليدة ومنع أي نموذج لحكم مدني قد يُلهم شعوب المنطقة.

أوروبا بين المصالح والارتباك

تعكس مواقف الدول الأوروبية تباينا واضحا في التعاطي مع الملف الليبي. ففرنسا تميل إلى دعم حفتر ضمنيا، خصوصا في الجنوب، معتبرة إياه طرفا قادرا على مكافحة الجماعات المسلحة، بينما تسعى في العلن إلى دفع مسار الحل السياسي الشامل. أما إيطاليا، الأقرب جغرافيا إلى ليبيا، فتركز على ملف الهجرة غير النظامية وأمن الطاقة، وتحرص على الحفاظ على علاقات مستقرة مع حكومة طرابلس، في محاولة للحد من تدفقات المهاجرين وضمان إمدادات الغاز.

من جانبها تتبنى واشنطن سياسة الحذر تجاه الأزمة الليبية، مع دعم لجهود الأمم المتحدة في توحيد المؤسسات وتنظيم الانتخابات. وعلى الرغم من محدودية تدخلها المباشر، تراقب الولايات المتحدة تطورات المشهد عن كثب، خشية تغلغل روسيا أو الصين، خصوصا في ما يتعلق بمصادر الطاقة ومكافحة الإرهاب.

تظهر هذه المواقف بجلاء كيف يمكن لصراع المصالح الإقليمي والدولي أن يقف عائقا أمام تطلعات شعب يسعى إلى الاستقرار. فبعد أكثر من عقد على سقوط نظام القذافي، لا تزال ليبيا تدفع ثمن صراع الأجندات الخارجية، حيث تستخدم السياسة والاقتصاد والسلاح كأدوات نفوذ من قبل قوى تتعامل مع ليبيا كساحة صراع لا كدولة ذات سيادة.

وبينما يفترض أن يكون الحل ليبيا-ليبيا كما تنادي الجزائر، فإن الواقع يؤكد أن الخروج من النفق المظلم لن يتحقق إلا بتوافق دولي حقيقي يضع مصلحة الليبيين فوق الحسابات الجيوسياسية ويضمن وحدة البلاد وسيادتها على كامل ترابها.