العالم

كيف حوّلت الجغرافيا السودان إلى ساحة صراع إقليمي مفتوح

يؤكد الصراع السوداني نظرية "لعنة الموارد" (Resource Curse) بأبعادها الحديثة، حيث يشكل الذهب مصدر تمويل رئيسي للدعم السريع عبر مناجم دارفور.

  • 382
  • 3:14 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

تقترب الحرب في السودان من عامها الثالث، متحولة من صراع على السلطة إلى حرب وجودية تعيد تعريف الدولة نفسها. ما بدأ في أفريل 2023 كمواجهة بين الجيش السوداني النظامي وقوات الدعم السريع، تحول إلى فوضى معقدة تجسد نظريات انهيار الدولة وتصادم المصالح الإقليمية، مع صعود الفواعل غير النظامية وتحول الاقتصاد إلى ساحة حرب.

الحرب في السودان ليست مجرد نزاع داخلي، بل هي مختبر لمقاربات متعددة صراع الهويات، عولمة العنف، تفتت السيادة، وتصادم المصالح في عصر ما بعد النظام العالمي الأحادي، وأطماع على الثروات (نفط وذهب).. إن تجاهل هذه الحرب ليس خياراً، لأن سقوط السودان سيكون مقدمة لزلزال جيوسياسي يهز منطقة تمتد من الساحل إلى البحر الأحمر.

انهيار الدولة المركزية: نظرية الفوضى المُطبقة

تمثل الحرب السودانية نموذجاً حياً لنظرية "الفوضى الجديدة" (New Chaos) في العلاقات الدولية، حيث فقدت الدولة احتكارها للعنف المشروع لصالح فواعل مسلحة متعددة. الجيش السوداني، رغم احتفاظه بـ19 فرقة عسكرية، لم يعد القوة الوحيدة المسيطرة، بينما تحولت قوات الدعم السريع إلى "دولة داخل الدولة"، خاصة في مناطق إنتاج الذهب والنفط، مع استفادته من دعم خارجي

كما يشهد السودان ظاهرة "عودة القبيلة" كفاعل سياسي وعسكري رئيسي. في المناطق الخاضعة للدعم السريع، حلت الهياكل القبلية محل مؤسسات الدولة، مما يؤكد نظرية "انحسار الدولة" (State Retreat) في مواجهة الهويات ما قبل الوطنية. هذا التحول يخلق ديناميكيات جديدة حيث الولاءات المحلية تتجاوز الولاء للدولة المركزية.

وفيما يخص الجغرافيا السياسية، فإن السودان أضحى ساحة صراع إقليمي، بينما يبقى البحر الأحمر الشريان الاستراتيجي المتنازع عليه، اذ يمثل الساحل السوداني الممتد 700 كلم على البحر الأحمر نقطة تقاطع مصالح جيوسياسية متعددة، فمصر ترى في استقرار السودان ضرورة لأمنها المائي (حصة النيل) والأمني، والإمارات تسعى لنفوذ استراتيجي عبر الدعم السريع لتحقيق أهداف اقتصادية وأمنية متعددة، وتتنافس أطراف إقليمية على النفوذ في الساحل الغربي للبحر الأحمر، بينما تبحث إثيوبيا عن منفذ بحري بديل بعد فقدانها لموانئ إريتريا.

وتمثل الحرب السودانية خطر "تصدير الفوضى" إلى جوارها الإقليمي، وفقاً لنظرية الانتشار الجيو-أمني، فعدم الاستقرار يهدد تشاد بتقويض النظام الحاكم الحساس، وجنوب السودان قد تعيد النزاعات العابرة للحدود إشعال حرب أهلية جديدة، وتواجه إثيوبيا تهديدات أمنية من تسرب الأسلحة والمقاتلين عبر الحدود الطويلة.

كما يؤكد الصراع السوداني نظرية "لعنة الموارد" (Resource Curse) بأبعادها الحديثة، حيث يشكل الذهب مصدر تمويل رئيسي للدعم السريع عبر مناجم دارفور، مما يخلق دورة عنف ذاتية الاستمرار. بينما أصبحت مناطق إنتاج النفط في جنوب كردفان وجنوب السودان أصبحت ساحات تنافس بين الفصائل المسلحة، وتحولت الحدود إلى قنوات لاقتصاد الحرب، مدعومة بشبكات إقليمية وعالمية.

كما تحول السودان إلى "سوق عمل للمقاتلين"، كما يصفه المحللون، مما يجسد ظاهرة "تسليح العولمة"، مع مرتزقة من كولومبيا وأوروبا الشرقية تدعمهم شبكات دولية، ومقاتلون من دول الساحل يشكلون تدفقاً بشرياً يبحث عن فرص في اقتصاد الحرب، وتدريب الميليشيات، حيث أصبحت بعض المناطق السودانية معسكرات لتدريب جماعات مسلحة إقليمية.

الأبعاد الإستراتيجية وصراع النفوذ متعدد المستويات

بالمقابل، تتموضع الحرب السودانية في إطار صراعات إقليمية أوسع، وفقا لمقاربة الحرب بالوكالة (Proxy War) في القرن الإفريقي، مع تنافس أطراف اقليمية على النفوذ عبر دعم أطراف مختلفة، إلى جانب التجاذبات القائمة والتنافس على النيل، وتموضع أطراف اقليمية سعيا للنفوذ عبر المساعدات الإنسانية والدبلوماسية.

ووفقا لنظرية "الحدود المسامية" (Porous Borders) تعاني دول الجوار من "مسامية حدودية" تسمح بتدفق الأسلحة، مع سوق سودانية مفتوحة تهدد استقرار الإقليم، وحركة عابرة للحدود تخلق شبكات إرهاب إقليمية، ناهيك عن المأساة الإنسانية عبر اللاجئين مع أكثر من 11 مليون نازح والذين يخلقون ضغوطاً ديموغرافية وأمنية.

يواجه السودان مصير "الدولة الفاشلة" (Failed State) ما لم تتوفر تدخل إقليمي بناء مع وساطة جامعة تجمع المصالح المتضاربة، وضغط دولي حقيقي بعقوبات مستهدفة على مصادر تمويل الحرب، ومصالحة وطنية شاملة، ودور إفريقي قيادي عبر تفعيل آليات الاتحاد الإفريقي للتدخل في الأزمات الداخلية للدول الأعضاء.

وتقدم الحرب السودانية دروساً إستراتيجية عميقة، حيث تؤكد هشاشة الدولة الوطنية في إفريقيا أمام تحالفات القبيلة والميليشيا والموارد، وتكشف عن تحول الصراعات من الحروب التقليدية إلى "حروب الهجين" (Hybrid Wars) حيث تتداخل العسكري بالاقتصادي بالقبلي، وتظهر كيف تتحول المناطق الإستراتيجية (كالبحر الأحمر) إلى ساحات صراع بين قوى متوسطة تسعى للنفوذ، كما تثبت نظرية "السيادة المحدودة" في عالم ما بعد الاستعمار، حيث تخترق القوى الإقليمية والدولية حدود الدول .