الوطن

حسني قيطوني يفكك "صراع الذاكرة"

بعد اعتماد قانون تجريم الاستعمار، يقدّم الباحث والكاتب في هذا الحوار قراءة تحليلية لردّ الفعل الفرنسي على التشريع الجزائري، ويستشرف آفاق العلاقات الثنائية في ضوء هذا التطور الجديد.

  • 632
  • 5:23 دقيقة
الصورة: الخبر
الصورة: الخبر

حاوره: حميد يس

الآن وقد خطت الجزائر خطوة غير عادية في علاقاتها مع باريس، إثر اعتماد قانون يجرّم الاستعمار.. كيف تتصور مستقبل العلاقات الثنائية في ضوء هذا التطور؟

- لا يغيّر هذا القانون الوضع بشكل جذري، إذ تظل الأزمة قائمة بمسبباتها، لكنه يؤكد سيادة الدولة الجزائرية على قضايا الذاكرة. وجدير بالذكر أن مشروع هذا القانون كان يُطرح للنقاش بانتظام منذ عام 1984 على الأقل، إلا أن السلطات المتعاقبة لم تملك الإرادة الكافية للمضي به حتى النهاية. وباعتماده من قبل البرلمان الجزائري، نكون قد اجتزنا مرحلة حاسمة تتمثل في توضيح الإطار الذي يجب أن تُبنى عليه المفاوضات مع فرنسا من الآن فصاعداً.

ولفهم أهمية ومعنى هذا التحول، لا بد من التذكير بإيجاز بمنهجية فرنسا فيما سماه بنجامين ستورا في تقرير له "الذاكرتان المشتركتان". وهي منهجية تقوم على ثلاثة مبادئ: رفض أي "توبة" شاملة، فصل الذاكرة عن المسؤولية القانونية، وصياغة ذاكرة مشتركة لكنها "غير متكافئة" (بمعنى أن معاناتكم مهمة، لكن معاناة ذويّ تظل دائماً هي الأهم).

ويضع تقرير ستورا ركائز هذه الاستراتيجية: المضي عبر مبادرات رمزية مستهدفة، أو إدارة مدروسة للماضي، مع تجنب أو تأجيل أي تسوية شاملة للنزاع الاستعماري.

ضمن هذه الاستراتيجية، تُعامل الجزائر كطرف سلبي، أو بدقة أكثر كـ"مستقبل" للمبادرات الفرنسية، لا كفاعل سياسي يملك السيادة على تاريخه الخاص. وهذا البعد هو المفتاح لتفسير الالتباسات والتوترات التي رافقت مبادرات ماكرون في كل مرة.

ولنا هنا مثالان: وافقت فرنسا على إرجاع جماجم شهدائنا، لكنها تمسكت بالسيادة في تحديد القائمة.. كما قرر ماكرون بمحض إرادته الاعتراف باغتيال بن مهيدي، في وقت لم تطلب فيه الجزائر ذلك.

بمعنى آخر، تريد فرنسا الاحتفاظ بزمام المبادرة في اختيار المواضيع، والجدول الزمني، وقضايا الذاكرة، والخطوات الواجب اتخاذها. والجزائر مدعوة ضمنياً لاستقبال هذه المبادرات وتزكيتها بالصمت أو الرضا، دون أن يكون لها الحق في تحديد شروط النقاش أو المشاركة في بناء الإطار المتصل بالذاكرة.

تقابل جميع مطالب الجزائر بالرفض أو التلطيف، ولا تُقبل أبدا كما هي؛ لأن فرنسا تخشى أن تفيض عليها مطالب الجزائر، أو أن تُملى عليها طريقة العمل. وهذا هو المنطق المهيمن، والمتعالي في جوهره، الذي جاء القانون لوضع حد له. فمن خلال حصر قائمة الجرائم الاستعمارية، على سبيل المثال، يؤكد القانون بوضوح أن الجزائريين وحدهم هم من يقررون ما أصابهم من جراح وصدمات ومساس بكيانهم ومجتمعهم، وهي الجرائم التي يجب الاعتراف بها أو جبر ضررها.

استشرافيا، قد يحدث هذا التطور توترات على المدى القريب، لأنه يربك الموقف الفرنسي التقليدي، لكنه يفتح أيضاً المجال لحوار أكثر شفافية، يقوم على المعرفة الموضوعية للحقائق والمسؤوليات التاريخية.

إن مستقبل العلاقات الثنائية سيتوقف على قدرة باريس على تجاوز منطق "الهيمنة الرمزية" للتعامل مع الذاكرة الاستعمارية بجدية وإنصاف.

إلى أي مدى يضع القانون الجديد الجزائر في مواجهة قانونية أو سياسية مع اتفاقيات إيفيان؟

ظل نطاق هذا القانون، في الوقت الراهن، محصوراً في البعد الداخلي. ولا يمكن أن تترتب عليه نزاعات قانونية (دولية) إلا إذا قررت الجزائر اللجوء إلى الهيئات الدولية للمطالبة بتعويضات. لكن، حتى في هذا المسار، يجب ألا نغرق في الأوهام؛ فهذه الهيئات قد أُحكم إغلاقها وتصميمها من قبل القوى الإمبريالية، تحديداً لمنع محاكمة الاستعمار وجرائمه بأثر رجعي.

أطرح عليك نفس التساؤل لكن بشكل مغاير: هل يمكن لهذا التشريع أن يتضمن آليات عملية لتجسيد مضمونه، ولا سيما فيما يتعلق بتحميل فرنسا مسؤوليتها عن جرائم الاستعمار، مثل التجارب النووية، أم أنه لا يعدو كونه أداة سياسية تستجيب لاعتبارات داخلية خاصة بالجزائر؟

يجب التمييز بين جرائم الحقبة الاستعمارية، وجرائم الثورة التحريرية، وتلك المتعلقة بالتفجيرات النووية والألغام؛ فكل منها يمثل ملفا مستقلا بذاته. نعم، إن قانون تجريم الاستعمار ليس مجرد إيماءة سياسية داخلية، لكنه في المقابل لا ينشئ بحد ذاته التزامات قانونية مباشرة على فرنسا. يكمن دوره الأساسي في تحديد موقف رسمي للدولة الجزائرية حول الطبيعة الإجرامية للفعل الاستعماري. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يعمل القانون كرافعة عملية لتحركات محددة، مثل: فتح تحقيقات وطنية، إعداد ملفات موثقة، والمطالبة بمعالجة آثار التجارب النووية (الأرشيف، تعويض الضحايا، وتنظيف البيئة من النفايات النووية)، بالإضافة إلى القيام بمساعٍ لدى الهيئات الدولية، لا سيما التابعة للأمم المتحدة.

وبعبارة أوضح، فإن المسؤولية الفرنسية التي يُفعّلها هذا القانون هي مسؤولية سياسية ودبلوماسية في المقام الأول، وليست قضائية بالمعنى الضيق. وبالتالي، فإن فاعليته ستتوقف على مدى إرادة الجزائر في إدراجه ضمن استراتيجية مستدامة، وعدم الاكتفاء به كفعل رمزي عابر.

فرنسا قالت إنه "تصرف عدائي" ضدها..

تعكس التصريحات الفرنسية، في جوهرها، حالة من الارتباك السياسي و"الذاكراتي" العميق. إن وصف القانون بـ"العمل العدائي" يعكس رفضا صريحا لفكرة إخضاع الاستعمار للمساءلة والمسؤولية، وإصرارا على إبقاء هذه القضية حبيسة المبادرات الرمزية الخاضعة للسيطرة.

المؤرخ بن جامان ستورا، الذي يعدّ مستشار الرئيس الفرنسي في قضايا الذاكرة مع الجزائر، أعلن تحفظه على ما سماه "إخضاع التاريخ لمسار قضائي".. ماذا تفهم من كلامه.. ما دلالاته؟

عندما يتحدث عن "إخضاع التاريخ لمسار قضائي"، فهو يعبّر عن موقف تقليدي معروف في فرنسا؛ مفاده أن التاريخ يجب أن يظل حلا أكاديميا ومجالا متعلقا بالذاكرة، لا أن يدخل في صلب القانون. لكن خلف هذه الصيغة تكمن مخاوف واضحة تماما: وهي رؤية الاستعمار يخرج من حيز "السرد القصصي" ليدخل في حيز "المسؤولية"، مع كل ما يترتب على ذلك من تبعات سياسية وقانونية.

إن دلالة هذه التصريحات سياسية أكثر منها تاريخية؛ ففرنسا تقبل القيام بمبادرات، واعترافات جزئية، ودعم أعمال المؤرخين، لكنها ترفض أي مسعى قد يمهد الطريق لتكييف قانوني شامل للفعل الاستعماري. ومن هنا، فإن القانون الجزائري يزعج باريس تحديدا لأنه يكسر هذا المنطق، ويؤكد سيادة وطنية في التعامل مع التاريخ (بدلاً من سيادة ذاكراتية) تفلت من الإطار الذي وضعته فرنسا.

صرّح محمد لحسن زغيدي، رئيس الفريق الجزائري في اللجنة الجزائرية الفرنسية المكلّفة بتسوية الخلافات المرتبطة بالذاكرة، بأن قانون تجريم الاستعمار يُعد ردّا على قانون تمجيد الاستعمار الذي صدر في فرنسا عام 2005. هل يمكن أن يؤدي هذا الموقف إلى تعطيل عمل هذه اللجنة أو وضع حدّ نهائي له؟

يضع هذا التصريح نهاية لعمل اللجنة المشتركة، لكنه يكشف بوضوح عن حدودها. فمن خلال استحضار القانون الفرنسي لعام 2005 الذي يمجد الاستعمار، يؤكد محمد لحسن زغيدي على حقيقة جوهرية: وهي أن النزاع حول التاريخ مع فرنسا هو نزاع قانوني وسياسي بقدر ما هو تاريخي. بل إن القانون الجزائري ينص صراحةً على أنه جاء كـ"رد فعل" على الإنكار الفرنسي ورفض باريس الاعتراف بالطبيعة الإجرامية للاستعمار.

من المؤكد أن هذا القانون قد يسرّع من وتيرة الأزمة ويزيد من حدة التوتر، خاصة وأن الطرف الفرنسي كان ينظر إلى اللجنة بوصفها فضاءً لـ"الإدارة الهادئة" للماضي. لكن، في الوقت ذاته، يساهم هذا الموقف في توضيح الإطار العام؛ إذ لا يمكن مطالبة الجزائر بالحوار حول الذاكرة في الوقت الذي تحافظ فيه فرنسا على خطاب وممارسات تضفي الشرعية على الاستعمار.

وبعبارة أخرى، فإن هذا التصريح لا يعطّل عمل اللجنة بشكل آلي، لكنه يضعها أمام ضرورة مواجهة التناقض الجوهري: فإذا ظلت اللجنة حبيسة المبادرات الرمزية، فإنها تخاطر بالوصول إلى طريق مسدود. أما إذا قبلت بمعالجة الأسباب العميقة للخلاف - بما في ذلك القوانين والمسؤوليات - فعندها يمكن للحوار أن يستمر، ولكن على أسس أكثر صراحة ووضوحا.