الوطن

عندما ترفع باريس شعار النفاق

من الدفاع عن "صحفي" ممول من حركة "الماك" إلى تجاهل إرهابها.

  • 913
  • 3:14 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

لم تكن الضجة التي أثارتها باريس عقب تأييد مجلس قضاء تيزي وزو الحكم بالسجن سبع سنوات على الصحفي الفرنسي كريستوف غليز، سوى فصلا جديدا في سلسلة مواقف فرنسية تتسم بالكيل بمكيالين، ومحاولة استعادة نفوذ ضائع من بوابة الضغط السياسي والإعلامي على مؤسسات الدولة الجزائرية.

بمجرد صدور البيان الرئاسي الفرنسي الذي أعرب فيه الرئيس إيمانويل ماكرون عن "قلق بالغ"، إزاء الحكم القضائي، حتى انطلقت آلة التشويه في الإعلام الفرنسي المتحالف مع اليمين المتطرف، لمحاولة تصوير الجزائر دولة تقمع الصحافة وتتجاوز العدالة، في حملة يبدو أنها أعدت مسبقا ولم تكن مجرد رد فعل عفوي.
لكن خلف التصريحات الوردية عن "حقوق الإنسان" و"حرية الصحافة"، تختبئ حقيقة مرة، حقيقة يعرفها الجزائريون جيدا (إذ لا يوجد في العالم من يعرف فرنسا أكثر من الجزائريين)، باريس تمارس عكس ما تقول. فمن ينهى عن منكر ويأتي مثله، بل بأسوأ منه، لا يحق له إلقاء الدروس على الآخرين. صورة فرنسا اليوم لا تشبه أبدا تلك الأسطورة التي تدعيها، بل أقرب إلى نسخة مشوهة من دولة تعيش انحلالا أخلاقيا وسياسيا، وتغرق في ازدواجية المعايير إلى حد الفضيحة.

قضية كريستوف غليز ليست قضية صحفي بالمفهوم المهني، بل قضية شخص دخل الجزائر بصفة سائح بينما كان مكلفا بمهمة من قبل حركة "الماك" المصنفة إرهابية من طرف الجزائر، والمدعومة في الخفاء من أجهزة فرنسية تدرك جيدا خلفياتها وتمويلاتها. الرجل لم يكن ينقل معلومات صحفية بل يمرر رواية سياسية انفصالية، وحينما تحرك القضاء الجزائري ضمن سيادته الكاملة، صرخت باريس واستعانت بقاموسها القديم عن "حرية التعبير"، وكأن التجسس السياسي المتنكر في ثوب الصحافة حق مقدس لا يمكن مساءلته.

الإعلام الفرنسي من جهته، مثلما كان منتظرا، دخل في حالة هستيريا منظمة.. صحف وقنوات وشبكات رقمية مرتبطة باليمين المتطرف سارعت إلى تقديم غليز كـ"سجين رأي"، بينما تتجاهل في المقابل الانتهاكات الصارخة التي تمارس داخل فرنسا نفسها، حيث يتم اعتقال جزائريين لمجرد الاشتباه، وتتم معاقبة كل من يعبّر عن دعمه لغزة. وقضية اللاعب الجزائري يوسف عطال ليست ببعيدة، حيث حكم عليه بستة أشهر سجنا مع وقف التنفيذ بسبب منشور يدين الإبادة الجماعية الذي ينفذها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة. هذه هي فرنسا التي تتحدث عن حرية التعبير، حرية محاطة بالأسلاك، تتغير باختلاف الهوية والديانة والموقف السياسي.

في المقابل، تتخذ باريس موقفا صامتا بل متواطئا حين يتعلق الأمر بالمجرمين الذين نهبوا ثروات الجزائريين واختاروا الأراضي الفرنسية ملجأ لهم، على شاكلة وزير الصناعة الأسبق عبد السلام بوشوارب.. أوامر القبض الدولية الصادرة من الجزائر تعامل في باريس كما لو أنها وثائق غير مرغوب فيها، حيث يتم تجاهلها أو وضعها في الأدراج، لأن أولئك "الأصدقاء" مفيدون لنفوذ فرنسا.. إنها العدالة الانتقائية في أبهى صورها، اللصوص محميون، الأبرياء يعاقبون، والانفصاليون يتجولون بكل حرية.

أما الوضع الأكثر قبحا فهو سماح فرنسا لحركة "الماك" بالنشاط في العلن، باعتبارها "جمعية وفق قانون 1901"، بينما الجميع في أجهزة الدولة الفرنسية يعرف طبيعتها وعلاقاتها وأهدافها. هذا ليس جهلا من جانبها، بل تواطؤا محسوبا، وتوظيفا سياسيا لجماعة انفصالية لضرب استقرار الجزائر. وهي نفس الحركة التي كانت وراء تمويل وتوجيه كريستوف غليز قبل دخوله الأراضي الجزائرية.
والمفارقة أن باريس التي لا تزال -بلا حياء- تصرّ على تقديم نفسها كحامية "للقيم الديمقراطية"، هي نفسها التي قامت بإهانة دبلوماسي جزائري علنا قبل أشهر بسبب إشارة هاتف، ثم تأتي اليوم لتتحدث عن "العدالة". أي عدالة؟ العدالة التي تستبدل عقوبة السجن بخمس سنوات بسوار إلكتروني؟ أم تلك التي تحمي الفاسدين وتلاحق الضعفاء؟ الحقيقة أن العدالة الفرنسية تحولت إلى أداة سياسية بامتياز، وسلاحا في يد نخبة متعجرفة تعتقد أنها ما تزال تتحكم في مصائر الآخرين.

وفي خضم هذه الفوضى الأخلاقية، تظهر الجزائر بموقف سيادي وواضح.. وقضية المسمى بوعلام صنصال دليل آخر على ذلك، حيث تعاملت الجزائر بإنسانية مع حالة حساسة، ولم يكن في ذلك خضوعا لفرنسا كما حاولت بعض الأقلام تصويره زورا وتضليلا، بل كان تعبيرا عن نضج دولة واثقة من نفسها.. إنها كرامة الجزائر، وهذا بالضبط ما لا تتحمله باريس.

فرنسا، في صورتها الحالية، لا تزال أسيرة عقلية استعماري لم يستوعب بعد أن الجزائر دولة مستقلة ذات سيادة.. تصرخ لأن الجزائر تتقدم، تغضب لأن الجزائر لم تعد تنحني، تتوتر لأن شعبا قرر أن ينظر إلى الأمام دون إذن من أحد. وهذا ما لم تغفره باريس، وربما لن تغفره أبدا.