الوطن

"الإمارات تهرب ذهب مالي بتواطؤ النظام العسكري في باماكو"

يرى الخبير في الشؤون الجيوسياسية، رؤوف فراح،ي أن أي حل دائم في شمال مالي يقتضي الاعتراف بالتعدد الهوياتي والتجارب التاريخية في هذا الفضاء.

  • 13284
  • 6:32 دقيقة
الصورة: ح.م
الصورة: ح.م

نبه الخبير في الشؤون الجيوسياسية، رؤوف فراح، إلى ضرورة التحسب للتحولات الجذرية التي يعرفها "الساحل" وتصارع القوى والكيانات على هذه البقعة الجغرافية التي باتت تشكل تهديدا غير مباشر للأمن القومي الجزائري، داعيا السلطات إلى تبني مقاربة شاملة تمزج بين الأمن والتنمية والدبلوماسية لحماية الجنوب الكبير.

ويرى فراح، في حوار مطول له مع صحيفة "القدس العربي" اللندنية، أن حادثة إسقاط طائرة مسيرة تركية الصنع فوق التراب الجزائري في منطقة تينزاواتين، ليلة 31 مارس إلى 1 أفريل، لم تكن مجرد حادثة عرضية أو خللا فنيا معزولا، بل تمثل لحظة فاصلة في علاقة ثنائية كانت تشهد مسبقا تصدعات متسارعة.

ويؤكد الباحث أن الاقتصار على الجانب التقني في تفسير الأزمة يعد قراءة مجتزأة للواقع، لأنها تقع ضمن إطار أوسع من التوترات السياسية المتراكمة، منذ الانقلاب الثاني في مالي عام 2021 وتعقيدات ملف تسوية قضية الشمال (الأزواد)، إضافة إلى تغيرات كبرى في التموقعات الجيوسياسية في منطقة الساحل وتنامي الحذر المالي من أي دور خارجي، بما في ذلك الدور الجزائري الذي كان تاريخيا وسيطا محوريا.

ويشير المتحدث، في هذا السياق، إلى أن بروز "تحالف دول الساحل الثلاث" عام 2023 وقرار باماكو الانسحاب من اتفاق الجزائر من طرف واحد، فضلا عن توسع انتشار مجموعة "فاغنر" في مناطق قريبة من الحدود الجزائرية والخطاب السيادي المتشدد تجاه الجزائر، كلها عوامل ساهمت في خلق مناخ إقليمي محفوف بالتوترات والانزلاقات المحتملة.

رغم كل ذلك، يرى فراح أن هذه الأزمة لا تمثل قدرا حتميا، بل لا تزال قابلة للاحتواء السياسي، شريطة تفادي توظيفها خطابيا وإعلاميا والعودة إلى قنوات الحوار الرسمية وغير الرسمية، بل ويعتبر أن هذه اللحظة قد تحمل في طياتها فرصة لإعادة صياغة الإطار العام للعلاقات بين الجزائر وجوارها الجنوبي على نحو أكثر وضوحا وتوازنا.

ويشدد الخبير هنا على أن جوهر الأزمة لا يكمن في الاحتمالات العسكرية الكلاسيكية، بل في المجال الرمزي والدبلوماسي، وهو ما يستدعي تحركات ملموسة وإعادة تفعيل الوساطات الصامتة وتجنب الخطاب التصعيدي الذي من شأنه أن يعمق الانقسام ويضر بالمصالح المشتركة.

الخطاب العدائي

ويعتقد فراح أن الخطاب العدائي المتصاعد من طرف السلطات الانتقالية في مالي ضد الجزائر أخذ أبعادا متعددة، فهو من جهة أداة سياسية داخلية تستخدمها باماكو لتعزيز شرعية انتقالية هشة عبر اختلاق "عدو خارجي"، وفي الوقت ذاته يعكس اتجاها سياديا متشددا يرفض أي تدخل خارجي، حتى وإن كان صادرا عن الجزائر التي لطالما التزمت الحياد.

غير أن هذا التوجه العدائي لا يخلو، حسب فراح، من سوء فهم متعمد أو تراكمي للدور الجزائري الذي لطالما ارتكز على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع مختلف الفاعلين المحليين في شمال مالي، استنادا إلى روابط اجتماعية واقتصادية ضاربة في العمق، فضلا عن إرث الوساطات التاريخية التي أدارتها الجزائر خلال العقود الماضية.

وفي هذه النقطة، يؤكد المتحدث أن الجزائر لا تؤوي جماعات مسلحة بل تستضيف شخصيات فاعلة تعتبرها مفتاحا لأي حل سياسي، مثل الإمام محمود ديكو المعروف بمواقفه المناوئة للنظام ودعمه للحوار وشخصيات من جبهة تحرير أزواد كالغباس أغ إنتالا. هذا الانفتاح الذي هو شرط لأي وساطة فعالة يفسر في باماكو على نحو مغلوط ويعتبر انحيازا لطرف دون آخر، ما يستدعي من الجزائر، في نظر فراح، مراجعة طريقة تواصلها وخطابها السياسي لتوضيح أن الوساطة لا تعني الاصطفاف، بل ترمي إلى تسوية عادلة ودائمة.

وحول تبني باماكو مقاربة "الحسم العسكري الكامل" في شمال البلاد، يرى فراح أن هذا الخيار أثبت محدوديته الميدانية، خاصة مع استئناف القتال بين القوات المالية وفصائل "جبهة تحرير أزواد"، بمساندة مقاتلي "فاغنر". ويشير إلى أن الحرب ضد الجماعات الإرهابية العنيفة مشروعة، لكن الاعتقاد بأن الدولة يمكن أن تفرض سلطتها من دون حوار أو إدماج سياسي هو رهان خاطئ وخطير. ويذكّر بأن تجربة عملية "برخان" الفرنسية رغم تكلفتها الضخمة لم تحقق الاستقرار، بل غذت العنف بسبب عسكرة المشهد وتهميش المجتمعات المحلية.

ويشدد المتحدث على أن أي حل دائم في شمال مالي يقتضي الاعتراف بالتعدد الهوياتي والتجارب التاريخية في هذا الفضاء واعتماد آليات عدالة انتقالية وخلق فضاءات حوار شاملة، لأن السلام لا يفرض بالقوة بل يبنى عبر التفاوض والإصغاء والإصلاح الجذري لمعادلات الحكم. أما بخصوص التداخلات الإثنية واللغوية والاجتماعية بين الجزائر ودول الساحل، فيوضح فراح أن الحدود في الجنوب الجزائري ليست خطوط فصل بقدر ما هي فضاءات تفاعل وتواصل. القبائل الطوارقية والعربية والسونغاي ترتبط بروابط مصاهرة، لغات وتقاليد مشتركة وتمارس أنشطة اقتصادية وتجارية عابرة للحدود منذ قرون. بلدات مثل تينزاواتين وبرج باجي مختار في الجزائر وإن خليل وتالهنداك في مالي تشكل نسيجا واحدا، ما يجعل أي توتر في هذا الحزام الحدودي ينعكس مباشرة على الاستقرار الداخلي للجزائر، خصوصا في ولاياتها الجنوبية. من هنا، يرى فراح أن الجزائر لا يمكن أن تتعامل مع ما يحدث في الساحل كمسألة خارجية، بل هي معنية عضويا بالاستقرار ومسؤولة تاريخيا وجغرافيا وأخلاقيا عن المساهمة في التهدئة.

وبأخذ كل هذه العوامل، يشدد فراح على أن انسحاب مالي من اتفاق الجزائر كان خطأً استراتيجيا، إذ مثّل نقطة قطيعة مفصلية، ليس فقط لجهة رمزيته بل لما نتج عنه عمليا من انهيار آليات الحوار وتفاقم الصراع المسلح وتراجع ثقة الفاعلين الإقليميين والدوليين. يقول المتحدث إن الاتفاق رغم عيوبه كان يشكل مرجعية تفاوضية تتيح ضبط العلاقة بين الدولة والحركات المسلحة، والانقلاب على هذا الاتفاق أضعف مصداقية باماكو وأضر بمكانة الجزائر كميسر أساسي وأرسل رسائل سلبية إلى جماعات مسلحة أخرى في المنطقة، بأن منطق القوة يمكن أن يكون بديلا عن الحوار.

تورط القوى والكيانات الإقليمية

ولا يمكن، وفق فراح، فصل هذا التوتر بين الجزائر ومالي عن التحولات العميقة في التوازنات الإقليمية. إذ أن مالي، عبر تحالفها المتزايد مع روسيا من خلال مجموعة "فاغنر" ثم "أفريكا كوربس" وانسحابها من منظمة "الإيكواس" وطردها للقوات الفرنسية وخروج بعثة "مينوسما" وانسحابها من آليات تنفيذ اتفاق الجزائر، تسعى لفرض خريطة نفوذ جديدة تتجاهل كليا الأدوار التقليدية للجزائر في التهدئة الإقليمية.

ويرى فراح أن ما يحدث ليس مجرد تصعيد طارئ، بل تعبير عن رؤية استراتيجية تحاول إعادة رسم موازين القوى في المنطقة، في تغييب متعمد للدور الجزائري.

وضمن زاوية الرؤية هذه، يقول المتحدث إن العلاقة التقليدية بين الجزائر وروسيا، رغم طابعها التاريخي والتحالف الاستراتيجي، تمر بمرحلة اختبار حقيقية، خصوصا بعد التمدد الروسي في مالي وليبيا عبر "فاغنر" سابقا و"أفريكا كوربس" حاليا، دون التنسيق مع الجزائر. هذا الحضور الروسي، الذي تسلل إلى دوائر القرار الأمني في دول الجوار، قد يتحول، حسبه، على المدى المتوسط إلى عامل تهديد، لاسيما إذا ارتبط بأنظمة تتبنى مواقف عدائية تجاه الجزائر.

وفي قراءته للأدوار الإقليمية الأخرى، أكد فراح أن الإمارات تبني نفوذا تدريجيا في الساحل، مستعملة أدوات غير تقليدية كالذهب والتمويل السياسي والعلاقات السرية مع الأنظمة العسكرية، مشيرا إلى أن جزءا كبيرا من ذهب مالي المهرب يُوجّه إلى دبي، ما يضر باقتصادات الدول ويغذي شبكات موازية على صلة بمليشيات مسلحة، كما لفت إلى خطورة وجود شركات أمن خاصة مرتبطة بـ"إسرائيل" تعمل في مجالات التجسس والمراقبة.

أما المغرب، فرأى فيه فراح طرفا يستغل تراجع النفوذ الفرنسي والتوتر في علاقات الجزائر ببعض دول الساحل لتعزيز حضوره، خاصة عبر مبادرة "ممر الأطلسي"، التي تهدف إلى ربط دول الساحل بالموانئ المغربية. غير أن الخبير اعتبر المبادرة رمزية أكثر منها واقعية، في ظل هشاشة الأنظمة المعنية والتحديات الجغرافية والمالية، مشددا على أن الجزائر تبقى المؤهلة جغرافيا ولوجستيا للعب دور الجسر بين شمال وغرب إفريقيا.

وفيما يتعلق بتركيا، أوضح فراح أن دوافعها لا تقتصر على تسويق الطائرات المسيرة، بل تشمل بناء حضور استراتيجي متعدد الأبعاد، عبر أدوات اقتصادية ودينية وتعليمية. غير أن تأثير أنقرة لايزال في طور التكوين مقارنة بروسيا والإمارات، بسبب غياب الشبكات العميقة وتعقيد السياقات المحلية.

وحول مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، أشار فراح إلى أن تنفيذه يواجه صعوبات أمنية وتمويلية جدية، في ظل الوضع الهش في النيجر وتكلفته الضخمة، إلى جانب التحولات العالمية نحو الطاقات النظيفة، لكنه أكد أن المشروع يظل استراتيجيا وقد يصبح ممكنا إذا توفرت إرادة سياسية جزائرية-نيجيرية ودعم أوروبي طويل الأمد.

وفي تحليله، شدد الخبير على أن الخطر لا يكمن في نزاع عسكري تقليدي، بل في تعقيد إدارة حدود طويلة مع فضاء إقليمي غير مستقر، حيث تتفاقم التهديدات من إرهاب، تهريب وانتشار السلاح، لذلك دعا إلى مراجعة العقيدة الأمنية الجزائرية، عبر تجاوز منطق "تحصين الداخل" والانتقال إلى سياسة استباقية، تستثمر في الجنوب وتعيد تموضع الجزائر كفاعل إقليمي رئيسي.

وفي ما يخص الانقلابات المتوالية في مالي وبوركينافاسو والنيجر، رأى فراح أنها تعبّر عن رفض للهيمنة الفرنسية، لكن هذا الرفض لم يترجم إلى مشروع ديمقراطي بديل، بل أدى إلى تبعيات جديدة لأنظمة عسكرية تبحث عن رعاة جدد. وأكد أن التحرر الحقيقي يبدأ بالرفض، لكنه لا يكتمل إلا ببناء مشروع سياسي عادل منبثق من تطلعات الشعوب وليس من توازنات القوى الأجنبية.