الوطن

التشريع سيدفع بمسألة الذاكرة إلى مقدمة الملفات

المجلس الشعبي الوطني يواصل مناقشة قانون تجريم الاستعمار.

  • 506
  • 4:25 دقيقة
الصوة: المجلس الشعبي الوطني
الصوة: المجلس الشعبي الوطني

يواصل المجلس الشعبي الوطني مناقشة قانون تجريم الاستعمار، قبل المصادقة عليه يوم 24 ديسمبر الجاري، كوسيلة قانونية مهمة تستند عليها الجزائر في مطالبتها فرنسا بتحمل مسؤوليتها التاريخية والقانونية والأخلاقية عن جرائمها الشنيعة التي قامت بها منذ 1830.

وقال أستاذ القانون الدولي، فاروق قرنان، إن مقترح القانون ينص على نطاق الجرائم الاستعمارية خلال فترة الاحتلال (1830-1962)، بالإضافة إلى الآثار المستمرة بعد ذلك، وحدد 30 جريمة يشملها نطاق تطبيق هذا القانون، وهي في مجملها جرائم لا تسقط بالتقادم، تتحمل فرنسا المسؤولية الكاملة عنها.

ولفت في تصريح لـ"الخبر" أن القانون ألزم الدولة الجزائرية باتخاذ جميع التدابير اللازمة من أجل إلزام فرنسا بالاعتراف بجرائمها الاستعمارية والاعتذار عنها والتعويض عن الأضرار التي تسببت بها.

وأوضح أن الجرائم التي قامت بها في الجزائر خلال فترة الاحتلال، وتستمر بالقيام بها حتى الآن في ظل رفضها تقديم الخرائط المتعلقة بمواقع دفن النفايات النووية وبعض الألغام المضادة للأشخاص، بالإضافة لاستمرارها في سرقة التراث والذاكرة التاريخية الجزائرية من خلال رفضها رد الممتلكات الثقافية والوثائق التاريخية وحتى جماجم الشهداء، تعتبر وصمة عار كبيرة في سجل دولة تتبجح بأنها "دولة حقوق الإنسان"، فهي جرائم تستمر بإلحاق ضرر كبير بالجزائر دون أن تكون هناك فائدة واضحة لفرنسا.

وأكد المتحدث أن الجرائم التي ارتكبتها فرنسا انتهاكات لقواعد آمرة في القانون الدولي وهي قواعد لا يمكن للدول أن تخالفها أو تتفق على مخالفتها، فقد جاء في المادة 53 من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لسنة 1969 أنه "تكون المعاهدة باطلة إذا كانت وقت عقدها تتعارض مع قاعدة آمرة من القواعد العامة للقانون الدولي"، وبالتالي لا يمكن لأي نص قانوني داخلي (مثل قوانين العفو)، أو اتفاق ثنائي أن يتضمن عفوا عن هذه الجرائم أو يعفي مرتكبها من المسؤولية، وحال حدث ذلك تعتبر الاتفاقية "باطلة".

وقال الدكتور قرنان إنه على الرغم من عدم إمكانية مساءلة فرنسا عن جرائمها أمام الآليات القضائية الدولية في ضوء القانون الدولي الحالي دون قبول صريح منها باختصاص هذه الآليات، إلا أن قانون تجريم الاستعمار سيدفع بمسألة الذاكرة إلى مقدمة الملفات التي تقوم عليها العلاقات الجزائرية الفرنسية، وبالتالي سترمي الجزائر بثقلها السياسي من أجل إحراج فرنسا أمام المجتمع الدولي والضغط عليها بكل الأوراق الممكنة من أجل إلزامها بتحمل مسؤوليتها التاريخية والقانونية والأخلاقية اتجاه الجرائم التي قامت بارتكابها في الجزائر.

في هذا الصدد يمكن لفرنسا أن تمسح عارها عبر "التصالح مع ماضيها" كما قامت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بتحمل مسؤوليتها كاملة وقدمت جميع أشكال جبر الضرر الممكنة عن جميع الأضرار المادية والمعنوية للمتضررين من جرائمها، بداية بالاعتراف والاعتذار، ثم التعويض المادي والترضية وغيرها من أشكال جبر الضرر الأخرى، حتى أنها صممت برامجها التعليمية لتوجه رسالة للجيل الجديد بأن ما حدث في الماضي عبارة عن خطأ تاريخي لا ينبغي أن يتكرر، وهو ما يضمن نشأة أجيال جديدة لا تحمل في ذهنها العقلية الاستعلائية للمستعمر المجرم، ولم تكتف ألمانيا بذلك حيث قامت سنة 2021 بالاعتراف والاعتذار عن جرائم ارتكبتها في بداية القرن العشرين بناميبيا وقدمت تعويضا رمزيا لدولة ناميبيا فيما يعرف بـ"التعويض بالمزية"، على الرغم من عدم وجود أي آلية دولية تلزمها بذلك، وهي مبادرة لاقت استحسانا كبيرا على المستوى الدولي كونها تكرس نموذجا مهما لكيفية قيام الدول المحتلة بالتصالح مع ماضيها الاستعماري من تلقاء نفسها.

على العكس من ذلك، اختارت فرنسا مسارا مختلفا تماما، صممت من خلاله على الاستمرار في إنكار جرائم الماضي بل والاستمرار فيها، ورفض الاعتذار عنها، بل وسعت إلى تمجيد الأعمال التي قامت بها في الجزائر، وكرمت مجرمي حرب ومجرمين ضد الإنسانية بتقليدهم أوسمة عسكرية، ومنحهم مناصب سامية، عطفا عن النظام التعليمي الفرنسي الذي لا يزال يسوق للجيل الجديد سردية الرسالة الحضارية المزعومة وينكر ماضيا إجراميا موثقا.

جهود إفريقية

ويشار أن هذا القانون يأتي في سياق خاص تسعى من خلاله الدول الإفريقية لتوحيد جهودها من أجل المطالبة بإحقاق العدالة التعويضية عن الجرائم الاستعمارية، فكل من إعلان آكرا لسنة 2023 وإعلان الجزائر المعتمد مؤخرا قدما خريطة طريق شاملة لكيفية تحقيق هذا الهدف، ومن بينها تجريم الاستعمار على المستوى الداخلي من طرف الدول الإفريقية، حيث جاء في إعلان الجزائر "ندعم إنشاء وتعزيز الآليات القانونية على الصعيدين الوطني والإقليمي، وعلى مستوى القارة، وكذلك على الصعيد الدولي، بهدف إضفاء الطابع المؤسسي على تجريم الاستعمار في القانون الدولي، من خلال التوثيق وضمان الوصول الكامل إلى الأرشيفات واستردادها، وبما يكفل المساءلة القانونية عن جرائم الاستعمار ونتائجها المستدامة"، إذ يعتبر التجريم على المستوى الوطني خطوة أولى مهمة في مسار طويل للتعامل مع مخلفات جرائم الاستعمار في إفريقيا بشكل مناسب وشامل.

وختم الدكتور قرنان موضحا أن قانون تجريم الاستعمار يشكل خطوة تقدمية مهمة للجزائر التي قادت، أمس، حركة إزالة الاستعمار وتقرير المصير في إفريقيا، وتقود اليوم أيضا دول القارة في سعيها لتحقيق العدالة التعويضية، عبر السعي إلى جعل هذا الملف جزءا لا يتجزأ من جدول أعمال مختلف المنظمات الدولية ذات الصلة وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، مع محاولة إنشاء آليات دولية في المستقبل لتحقيق العدالة التعويضية، بالموازاة مع ذلك ستسعى إلى حث فرنسا على تحمل مسؤوليتها بشكل شامل من خلال الاعتراف بجرائمها والاعتذار عنها، وتقديم جبر الضرر المناسب عنها بما في ذلك رد الوثائق والممتلكات الثقافية وجماجم الشهداء، التعويض، المشاركة في إعادة تأهيل المصابين الذين تعرضوا إلى الضرر جراء الإشعاعات النووية، بالإضافة إلى مختلف تدابير الترضية الأخرى.

وقال المختص في القانون الدولي إن النص القانوني المقترح تضمن أحكاما جزائية وعقوبات صارمة ضد كل من يقوم بتمجيد الاستعمار أو الترويج له، وهو ما يعزز تحصين الذاكرة الوطنية وحمايتها من التزييف والتحريف والإنكار، ويصون كرامة الضحايا والشهداء الذين تعرضوا لشتى أنواع الانتهاكات، فتمجيد الاستعمار لا يمكن أن يكون جزءا من حرية التعبير المكفولة بموجب الدستور والاتفاقيات الدولية، كونها مشروطة بعدم المساس بالنظام العام والأمن العام وحقوق وحريات الآخرين، وتمجيد الاستعمار ينضوي على تبرير للعنف والجريمة واستهانة بمعاناة الضحايا يستحق فاعله أقصى العقوبات الممكنة.