+ -

 الحجّ ركن ركين من أركان الإسلام، وعبادة من عباداته العظام، خصه الله بميزات وخصائص لا نجدها في باقي العبادات، أظهرها أن أوجبه مرة واحدة في العمر على المستطيع {وَلِلَّهِ على النَّاسِ حِجُّ البيتِ منِ استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن اللهَ غني عن العالمين}، وفي هذا إشارة بيّنة على عظيم أثره في حياة الحاج؛ إذ هو حدث تاريخي متميز بالنسبة إليه، ومدرسة إيمانية تربوية له، وهذا يوجب على كل من حجّ أو نوى الحجّ أن يفتّش عن أثر الحجّ في حياته وأخلاقه وسلوكه، وأن يراقب سلوكه وأخلاقه وهو محرمٌ بهذا النّسك العظيم، متلبّسٌ بهذه العبادة المقدسة، وقد اجتمع له شرف العمل، وشرف المكان، وشرف الزمان، وشرف الصحبة.

والحق أن العبادات في الإسلام وثيقة الصلة بالأخلاق، بل تزكية النفس وتهذيب الخلق وتقويم السلوك أحد ثمارها، وأحد معايير استقامتها، فقد ربط الحق سبحانه بين افتراض هذه العبادات والأخلاق في مناسبات عدة؛ فقال عز شأنه في الصلاة: {وأَقِمِ الصلاة إن الصلاة تَنهى عن الفحشاء والمنكر}؛ فمن نتائج الصلاة: الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وهذه نتيجة إيمانية أخلاقية.
وقال جل شأنه في الصوم: {ياأيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كُتِب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}؛ فمن نتائج الصوم: تقوى الله تعالى، وهذه نتيجة إيمانية أخلاقية. وقال تبارك شأنه في الزكاة: {خُذ من أموالهم صدقة تطهِرهم وتزكيهم بها}؛ فمن نتائج الزكاة والصدقة: الطهارة والزكاء والنماء، وهذه نتيجة إيمانية أخلاقية. كما قال في الحجّ: {الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}، وفي هذا إشارة ظاهرة إلى ضرورة التزام الحاج بالخلق الحسن والأدب الطيب، صونا لنفسه فيه عن كل لغو، وإبعادا لها عن كل معصية، ونأيًا بها عن الجدال المفضى إلى الخصام والخلاف. فما الحجّ إلا سبيل من سبل طاعة الله، ومسعى إلى التقرب منه، والتعرض لمغفرته ورضوانه.. ومن أجل هذا ترك الحاجّ أهله، وأشغاله، واتجه إلى ربه، وبيت ربه، حتى يكون أهلا لأن يدنو من الله تعالى، وينال من رحمته ما يناله المتقون.

وقد أفاد علماؤنا أن الله سبحانه في هذه الآية الكريمة يريد من الحاجّ أن يجمع في حجّه بين أمرين، سلب وإيجاب، وترك وفعل؛ فأما السلب والترك، فقوله: {فمن فَرَضَ فيهن الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ}، وأما الإيجاب والفعل، فقوله: {وما تفعلوا من خير يعلمه الله}. والمقصود بفعل الخير الأمور المقابلة للأمور المنهي عنها، فإذا كان الإنسان لا يرفث في الحجّ فمطلوب منه أن يعف في كلامه، وفي نظره، وفي علاقته بامرأته الحلال له. ومطلوب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق، من طاعة ومعروف وبرٍّ وخير. كما يطلب منه أن يلتزم مقابل الجدال، وهو الكلام برفق وأدب ولين وحلاوة أسلوب وعطف على الناس.

ومن دقائق البيان القرآني في هذه الآية الذي يؤكد البعد الأخلاقي للحجّ ما ذكره الإمام الآلوسي رحمه الله في قوله: “والإظهار في مقام الإضمار [أي قوله تعالى: {.. ولا جدال في الحجّ} ولم يقل: فيه] لإظهار كمال الاعتناء بشأنه، والإشعار بعلة الحكم؛ فإن زيارة البيت المعظّم، والتقرب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك، وإيثار النّفي [أي قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال}، ولم يقل: فلا ترفثوا...] للمبالغة في النّهي، والدلالة على أنه حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه، منهيا عنه مطلقا؛ فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقّها أنكر وأقبح”. وكل هذا تأكيد على أهمية الأخلاق بالنسبة للحجاج، والتي هي شرط لنيل أجر الحجّ العظيم وثوابه الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: «من حجّ هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه».

* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة