"قلعة بني حماد أول وأقدم معلم يحمل قطعا من الزليج"

+ -

اعتبر البروفيسور الباحث عبد القادر دحدوحأن صناعة الزليج محليا في بلدان المغرب الإسلامي كانت في قلعة بني حماد بالجزائر، ثم أخذت تنتشر لتنتقل إلى مراكش وباقي البلدان، مشيرا في ذات السياق، إلى أنه خلال العهد العثماني انتشر أكثر وانتقل إلى مختلف المدن الجزائرية لنشاهده في معظم القصور والمساجد.

  

أفدنا بلمحة تاريخية عن تواجد الزليج في الجزائر ومن استقدمه وفي أية سنة؟

حينما نتتبع تاريخيا ظهور الزليج وتطوره في الحضارة الإسلامية، سنجد بداية ظهوره كان في المشرق الإسلامي خلال العصر العباسي، وقد لجأ إليه الفنان المسلم تجاوبا مع الحركة العمرانية الكبيرة التي شهدها العالم الإسلامي آنذاك، وكانت تستدعي خلق مادة تزيينية سريعة التجهيز والتركيب لزخرفة جدران عمائره، فكان الزليج بديلا عن الفسيفساء التي شاعت قبل الحضارة الإسلامية عند البيزنطيين والرومان، والتي كانت تقوم على تركيب مكعبات صغيرة من الحجارة ذات الألوان المختلفة والتي يستغرق عملية تركيبها وقتا أطول، ومنه لجأ الفنان المسلم إلى تقنية تصنيع الفسيفساء من الخزف، خاصة بعد ابتكار تقنية التمويه والتزجيج في الصناعات الخزفية، مما أكسب قطع الزليج جمالا ولمعانا وسرعة في الإنجاز فضلا عن وفرة المادة الأولية المشكلة من الطين أساسا.

وإن كانت الدراسات تتفق على تاريخ بداية ظهوره خلال العصر العباسي،إلا أنها تختلف في مكان ظهوره، فهناك ما يرجعه إلى إيران، ومنها أخذ تسميته التي شاعت في بلاد المشرق، حيث سمي بالقاشاني، نسبة إلى مدينة قاشان بإيران، ومن الدراسات ما يرجع ظهوره إلى العراق.

أما في بلاد شمال إفريقيا، أو ما يعرف في الاصطلاح التاريخي ببلاد المغرب الإسلامي، فإن دخول الزليج إلى المنطقة كان خلال عهد الأغالبة، حينما جلب الأمير زيادة الله في سنة 221 هجري الموافق 836 ميلادي قطعا من البلاطات الخزفية من سامراء وزين بها واجهة محراب جامع القيروان، غير أنه لم تشهد المنطقة ظهور صناعة الزليج إلا في العهد الحمادي، حيث ترجع إلى قلعة بني حماد أول وأقدم قطع من الزليج المصنعة محليا في بلاد المغرب عامة، ومن المعلوم أن بناء القلعة كان في سنة 398 هجري الموافق لـ1008ميلادي، ولا تزال تزخر متاحف الجزائر بكل من المتحف الوطني للآثار القديمة والفنون الإسلامية بالجزائر العاصمة، المتحف الوطني بسطيف والمتحف الوطني سيرتا بقسنطينة، إلى جانب متحف قلعة بني حماد، بالعديد من نماذج الزليج المكتشفة بقلعة بني حماد شاهدة على بزوغ صناعة محلية للزليج.

ومن المعلوم تاريخيا أن الدولة الموحدية هي التي ورثت الدولة الحمادية، فقد كان عبد المؤمن بن علي ابن منطقة هنين الجزائرية هو مؤسس الدولة الموحدية، ولأنه كان مطلعا على عمائر وفنون القلعة وبجاية الحمادية، فإنه من الطبيعي جدا أن يكون متشبعا بالثقافة المعمارية والفنية التي كانت سائدة بالجزائر آنذاك.

كما أن انتقال الحكم في بلاد المغرب الإسلامي عامة إلى مراكش بعد سقوط الدولة الحمادية، دفع بالحرفيين والصناع المهرة الجزائريين إلى الانتقال والهجرة إليها، ومن ثم انتقلت التقاليد الفنية من القلعة وبجاية إلى مراكش، فظهرت قطع الزليج ولأول مرة ببلاد المغرب الأقصى في مئذنة جامع الكتبية سنة 548 هجري، ومئذنة جامعة القصبة سنة 593 هجري بمراكش، ومن الموحدين انتشر فن صناعة الزليج ليشمل بلاد المغرب الإسلامي كلها، خاصة منذ العهد الحفصي الزياني المريني ثم العهد العثماني.

أقدم فخار وخزف تملكه المتاحف المغربية لا يتعدى القرن السابع عشر ميلادي، ومن خلال هذا العرض التاريخي يظهر بأن صناعة الزليج ظهرت في قلعة بني حماد أولا، ومنها انتشرت شرقا وغربا لتشمل المنطقة كلها وانتشرت أكثر خلال العهد العثماني، وهي الحقيقة التي ذكرها العديد من الكتاب والباحثين سواء من المنطقة المغاربية أو باحثين أجانب، وكمثال على ذلك ما ذكره الباحث الفرنسي غولفن وعثمان عثمان إسماعيل، صاحب موسوعة العمارة الإسلامية والفنون التطبيقية بالمغرب الأقصى الذي نقتبس مما كتبه: "... لا نكاد نعرف شيئا حتى الآن عن الخزف المغربي في العصور الوسطى فيما عدا ما حفظته لنا الآثار المعمارية على صوامع الموحدين والمرينيين وأرضيات المدارس المرينية.

وهكذا فإن ندرة الأمثلة المعروفة تقف عائقا كبيرا في سبيل البحث".

 وفي نص آخر يذكر نفس المؤلف: "إن أقدم فخار وخزف تملكه المتاحف المغربية لا يتعدى القرن السابع عشر الميلادي سنة 11هجري".

 

حدد لنا مكان تواجده مغاربيا؟

كنا ذكرنا بأن أول ظهور لصناعة الزليج محليا في بلدان المغرب الإسلامي كان في قلعة بني حماد، ثم أخذ ينتشر لينتقل إلى مراكش خلال العهد الموحدي وبعدها توسع نطاق استخدامه خلال العهد الزياني في تلمسان والحفصي في تونس والمريني في فاس ومكناس وغيرها، ومع العهد العثماني انتشر استخدام الزليج على نطاق أوسع، وصارت تزين به جدران مختلف العمائر الدينية منها والسكنية وغيرها، خاصة القصور والمساجد.

 

أذكر لنا الولايات الجزائرية التي حملت هذا الإرث؟

في الجزائر اشتهرت في البداية قلعة بني حماد بالمسيلة كموطن أول شهد ظهور صناعة الزليج في الجزائر خاصة والمغرب الإسلامي عامة، ثم انتشر وتطور في تلمسان خلال العهد الزياني وأصبحنا نرى فيها أمثلة كثيرة في تزيين واجهات المآذن وجدران وأرضية قصر المشور، لكن خلال العهد العثماني انتشر أكثر وانتقل إلى مختلف المدن الجزائرية، لنشاهده في معظم قصور ومساجد مدينة الجزائر، وفي معالم عديدة بكل من قسنطينة، وهران، معسكر، مستغانم، عنابة، مليانة، المدية وغيرها، بل ووصل إلى الجنوب الجزائري لنشاهده في محراب جامع سيدي عقبة بن نافع ببسكرة، ومسجد القبة الخضراء بتماسين.

 

هل أخذ الجزائريون هذه الحرفة.. وما هي الفضاءات التي كانت مكانا للإبداع فيها؟

لقد أبدع الجزائريون في صناعة الفخار والخزف عامة والزليج خاصة، ولا أدل على ذلك من قطع الزليج المكتشفة بقلعة بني حماد، وتكسيات الزليج التي لا تزال إلى يومنا هذا بعدة عمائر زيانيةبتلمسان على غرار قصر المشور بتلمسان ومئذنة الجامع الكبير بتلمسان، ومسجد سيدي أبي الحسن ومسجد سيدي ابراهيم وغيرها.

وخلال العهد العثماني لم يكتف الجزائريون بالصناعة المحلية، وإنما استوردوا الكثير من قطع الزليج التي كانت ذات جودة عالية وفرضت نفسها في السوق العالمية آنذاك، على غرار الزليج التركي والزليج الإيطالي والإسباني والهولندي، واستعملوها على نطاق واسع في مبانيهم في تزيين الجدران والعقود والقباب وأواوين الغرف والقاعات، والواجهات المشرفة على الصحون والأفنية وغيرها.

 

قسنطينة خزان لتواجد الزليج..أليس كذلك؟  

تعد مدينة قسنطينة أكثر المدن الجزائرية بعد مدينة الجزائر ثراء بالزليج خلال العهد العثماني، حيث في إطار إعدادنا لرسالة الدكتوراه زرنا العديد من مساكن ودور المدينة القديمة لقسنطينة بحي السويقة ورحبة الصوف وسوق العصر، وقد وقفنا على عدد كبير من الدور التي زينت جدرانها بقطع الزليج، على غرار دار صالح باي بسوق العصر، ودار الباي القريبة من قصر أحمد باي، ودار قايد الرحبة، ودار بن شيكو وغيرها، كما وقفنا أيضا على استخدام الزليج في الحمامات على غرار حمام سوق الغزل وحمام بن البجاوي، أما المساجد فلا يزال الجامع الأخضر والجامع الكبير خاصة مئذنته، وجامع سيدي الكتاني، والمدرسة التي بجانبه، كلها نجد فيها الفنان استخدم قطع الزليج في تزيين الجدران الداخلية لبيت الصلاة.

 كما أن قصر أحمد باي يعد متحفا للبلاطات الخزفية، ففي دراسة قامت بها الأستاذة الدكتورة زهيرة حمدوش،أحصت فيها أزيد من 130 نوعا بين بلاطات خزفية هولندية وإيطالية وتونسية، دون أن ننسى الصناعة المحلية بالمدينة التي كانت توجد فيها تربيعةالقلالين وفيها من أمين القلالين، والعديد من أسماء الحرفيين الذين عثرنا على أسمائهم في دفاتر سجلات المحكمة الشرعية يتلقبون بالقلال، نسبة إلى حرفة القلالة التي تشمل صناعة الفخار والخزف والزليج.

 

هل أثرت الترميمات على هذاالإرث..وكيف نحافظ على المتبقي منه؟

تعد قطع الزليج أكثر المواد الزخرفية حفاظا على أصالتها وأكثرها مقاومة لعوامل التلف، ولذلك لا تزال موجودة في أماكنها الأصلية في العديد من معالم قسنطينة، وبالرغم من أعمال الترميم التي شهدتها بعض معالم المدينة، على غرار قصر أحمد باي، إلا أن الكثير من قطع الزليج أعيد تركيبها في أماكنها الأصلية، وفي الغالب ما تخضع قطع الزليج إلى عملية جرد قبل نزعها من أماكنها حتى تسهل عملية إعادتها إلى أماكنها بعد عملية تقوية الجدران وترميمها، ومن ثم يمكن القول إن أعمال الترميم لا تؤثر كثيرا على قطع الزليج.