+ -

قال الشيخ ابن عاشور: “المصالح التحسينية هي عندي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها، حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوبا في الاندماج فيها، أو في التقرب منها”.

ويفهم من هذا الكلام أن إقامة هذا الأصل وتحقق هذه المرتبة يكمن في تحسين مظهر الأمة، وتقوية سلطان هيبتها، ترغيبا للآخرين فيها، اندماجا وتقربا، ويرى أن هذه المرتبة مما يراعى فيها مدارك المكلفين وأفهامهم. وفي الجملة هو الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، فهذا “الأصل التحسيني لا يتعلق بضرورة حاقة، ولا بحاجة عامة، ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة، أو في نفي نقيض لها”.

ويُعَضد الأصل التحسيني في غالب الأمر بأمور جبلية حتى كأن الشريعة تتأيد بموجب الجِبِلّة والطبيعة؛ ومثال ذلك النجاسات التي هي قذرة في حكم الجبلة، واجتناب قذارتها أهم وأكبر في مكارم الأخلاق والمروءات من اجتناب الشعث والغبار؛ لأن حصولها يقدح في صحة العبادات والطاعات.

تطبيقات التحسيني
وتتجلى هذه التطبيقات فيما شرع من الأحكام لحفظ الكليات الست في هذه المرتبة؛ فحفظ الدين شرع له الطهارة بالنسبة للصلوات، وستر العورات، وأخذ الزينة من اللباس، ومحاسن الهيئات، وإخراج الأطيب والأعلى من الأموال في الزكوات، والإنفاقات، وآداب الرفق في الصيام، ويدخل في هذا الباب منع الدعوات الضالة التي لا تمس أصل الاعتقاد، ولكن بتكاثرها تؤدي إلى إحداث الشكوك حول المقررات الإسلامية. أما حفظ النفس فيتم بالإحسان إليها، والرفق بها، وكذلك التزام آداب الأكل والشرب، ومجانبة المآكل النجسات والمشارب المستخبثات، والإسراف والإقتار في المتمولات، ويدخل في هذا الجانب حمايتها من الدعوات الباطلة، والسب، وغيره مما لا يمس أصل الحياة، كما يمنع قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد. أما من جهة حفظ العقل فيحصل بمباعدة الخمر ومجانبتها، وإن لم تكن هناك نية شربها طبقا لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} المائدة:90، إذا حمل على المجانبة بإطلاق، كما يرى ذلك الإمام الشاطبي، وكذلك منع الذميين من إعلان الشرب للمحرمات وبيعها في أوساط المسلمين، ولو كان المشترون ذميين، ومن هذا القبيل توفير وسائل التعليم والمعرفة، وتسهيل استعمالها للأفراد كافة دون إقصاء لأي طرف كان. أما حفظ النسل فمثاله عدم التضييق على الزوجة، فالإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، وكذلك بسط الرفق والتواد والتراحم وإشاعة السكينة في المعاشرة، وحرم على المرأة خروجها إلى الطرقات بزينتها، مصداقا لقوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن... ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون} النور:31، وعلق أبو زهرة على هذه الآية بقوله: “إن هذا من قبيل التحسينات؛ لأنه حفظ لكمال الأصل، ولأنه شرف وكرامة، ومنع للمهانة والتبذل الذي تقع فيه النساء اليوم”، ولحفظ المال في هذا الأصل منع بيع النجاسات، وفضل المأكولات والمشروبات، وحرم الخداع والنصب، وهذه التصرفات لا تتعلق بأصل المال، وإنما تتعلق بإرادة التصرف فيه عن بيّنة ومعرفة، وكذلك وجوب الإدراك الصحيح لطرق الكسب ومسالكه، وكذلك التورع في كسبه واستعماله وبذله على المحتاجين. أما حفظ الحرية فيتمثل في سلب العبد مقام الشهادة والإمامة، وسلب المرأة إنكاح نفسها، وتحرير العبد بالضرب والتمثيل، وكذلك تسهيل وسائل التعبير عن الآراء للجميع، واحترام الرأي المعارض.

مكملات التحسيني
ومن مكملات هذا الأصل آداب الأحداث ومندوبات الطهارات، والتقرب بنوافل الطاعات، وبنوافل الخيرات من الصدقات والقربات، وكذلك الاختيار في الأضحية والعقيقة، ومن هذا القبيل، الإنفاق من نفائس المكاسب، وكرائم الأموال، وكذلك منع خطبة الرجل على خطبة أخيه، وسومه على سوم أخيه، والنهي عن التمثيل والغدر في العقوبات، واختيار أنفس الرقاب في العتق تبرعا وتطوعا.
يقول الإمام الشاطبي: “ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك التحسينات كالتتمة للحاجيات، فإن الضروريات هي أصل المصالح”.

* رئيس الهيئة الشرعية بمصرف السلام الجزائر