كشف تقرير لمنظمة متخصصة في التحقيقات وتتبع تمويل الحروب، عن ما اعتبره أكبر عملية تهريب وقود مدعّم في تاريخ ليبيا، طيلة الثلاث سنوات الأخيرة، تورطت فيها جهات أجنبية ومحلية، بتوريده إلى منطقة الساحل والسودان ودول أوروبية، مستفيدة من توقف نسبي للحرب المفتوحة في البلد وعودة بعض الأنشطة النفطية جزئيا.
وأحدث التقرير، الصادر في شهر نوفمبر، من منظمة "ذا سانتري" المتخصصة، كما تعرّف نفسها، في تفكيك الشبكات المستفيدة من الصراعات العنيفة ومقرها بواشنطن بالولايات المتحدة، صدمة في الشارع الليبي منذ صدوره، بالنظر إلى ورود أسماء مسؤولين من الشرق والغرب، والعديد من الدول المنخرطة والمستفيدة بشكل غير مباشر، على غرار صدام حفتر، نجل المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على بن غازي ويتخذها عاصمة له، إلى جانب عبد الحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة الوطنية.
ويسلك الوقود المهرب المدعم طريقين، الأولى برية عبر طرق صحراوية، تمر على نقاط تفتيش تخضع كلياً لقوات حفتر، ليستقر الوقود في أسواق النيجر وتشاد ومناطق الصراع في السودان، بأسعار تفوق السعر المدعوم بعشرات المرات، بحسب التقرير، مبرزا استفادة قوى أجنبية، ومن بينها القوات الروسية المتمركزة في قواعد داخل ليبيا، من خلال الحصول على حصص من الوقود ليتم استهلاكه محلياً أو نقله جواً نحو مناطق نفوذ روسية في مالي.
كما يصل جزء من الوقود، وفق التقرير، إلى قوات الدعم السريع السودانية في دارفور، في إطار شبكة مصالح مرتبطة بالدعم السياسي واللوجستي الإماراتي لمعسكر حفتر، لافتا إلى أن هذه العلاقة بين التهريب والسياق الجيوسياسي تجعل من الوقود الليبي مصدرا مباشرا لـ"تمويل النزاعات الإقليمية، وليس مجرد تجارة غير قانونية داخل الحدود الوطنية".
في حين أن الخط الثاني الذي تسلكه عمليات التهريب، وفق المصدر نفسه، يتمثل في الشحن البحري عبر ميناء بنغازي والموانئ المجاورة، وتتجه نحو دول مثل إيطاليا ومالطا وتركيا وألبانيا عبر طرق مباشرة أو من خلال نقل الشحنة في عرض البحر لإخفاء المصدر.
واللافت أن العمليات ليست عشوائية أو متفرقة، وإنما، وفق الوثيقة، التي تتكون من نحو 72 صفحة، تتخذ شكل ظاهرة قائمة بذاتها و"مهيكلة تنتشر على الأطراف والحدود وتنخرط فيها أطراف مترابطة ومحمية من داخل مؤسسات الدولة نفسها"، تقوم ببيع الوقود المدعوم من الدولة بعشرات الأضعاف في السوق السوداء، مشيرة إلى أن "الخسائر السنوية الناتجة عن تهريب الوقود تقدر بحوالي 6,7 مليارات دولار، بينما بلغت الخسائر الإجمالية في ثلاث سنوات الأخيرة ما يقارب 20 مليار دولار".
وتسببت هذه الخسائر، وفق المصدر نفسه، في آثار سلبية بالغة على احتياطي العملات الصعبة لدى مصرف ليبيا المركزي، وفي تراجع قيمة الدينار، وارتفاع الأسعار، إضافة إلى تزايد شح الوقود داخل ليبيا رغم تضاعف حجم الواردات.
وما زاد من حدة الأزمة، وفق التقرير، أنّ مقايضة النفط الخام بالوقود المستورد الذي اعتمدته المؤسسة الوطنية للنفط منذ عام 2021، صعّب مهمة تتبع ورصد حركة الأموال والصفقات.
واللاعب الرئيسي في هذه العمليات، بحسب مضمون الوثيقة، هو صدام حفتر، بوصفه قائدا فعليا في منظومة التهريب في الشرق والجنوب، وعمل على توحيد الشبكات المتفرقة، مستغلا سلطة القوات المسلحة التابعة لوالده في الموانئ والطرق والمخازن التابعة لشركات النفط الرسمية، ليصبح التهريب نشاطا منظما بضوابط وإجراءات داخلية تشبه إدارة قطاع اقتصادي مواز، يضيف المصدر.
وعلى صعيد آخر، تحدث التقرير عن جبهة ثالثة لتهريب الوقود المدعم، وهي طرابلس، فأشار إلى أن حكومة عبد الحميد الدبيبة، رغم تعهداتها المتكررة بإصلاح نظام الدعم، لم تتخذ إجراءات جدية للحد من الظاهرة، بل ظهرت مؤشرات على تواطؤ بعض التشكيلات المسلحة الموالية للحكومة في عمليات تهريب، انطلاقا من الساحل الغربي، وخاصة من منطقة مصراتة ومحيطها، مشيرا إلى أن وجود محطات وقود وهمية تُستخدم لتضخيم الطلب المحلي، تمهيدا لإعادة توجيه نحو طرق غير شرعية.
ورغم تعيير بعض القيادات داخل مؤسسة النفط في 2025 وإعلان وقف نظام المقايضة، يشير التقرير إلى أن وقف هذه الآلية وحده غير كافٍ ما لم يترافق مع مراجعة جذرية لملف الدعم، وتعقب شبكات الفساد داخل مؤسسات النفط والتوزيع، وفرض محاسبة حقيقية على الشخصيات العسكرية والسياسية والاقتصادية التي شاركت في هندسة هذه المنظومة، سواء داخل الشرق أو الغرب، أو داخل المؤسسة الوطنية للنفط وشركات التوزيع التابعة لها.

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال