مجتمع

الفقارة.. نظام ري ضارب في القدم يزين أدرار

ابن خلدون أعجب بها.

  • 2039
  • 6:47 دقيقة
الصورة : ح.م
الصورة : ح.م

ارتبط ازدهار منطقة توات قديما بكونها واحة كبيرة اشتهرت بثروتها الزراعية، بفضل نظام هيدروليكي فريد من نوعه. ورغم أن الرمال والحجارة هي المظهر التضاريسي الغالب على سطحها، لم يقف الإنسان التواتي عاجزا مكتوف الأيدي أمام تلك الصعاب، بل تحدّى الرمال وطوّع الحجارة، فأخرج منها الماء، وابتكر طريقةعجيبة فريدة في استخراج تلك المياه وتوزيعها، أصبحت نظاما قائما متوارثا يثير الدهشة والإعجاب، وهو نظام السقي بـ "الفقارة".

الفقارة هي مجموعة من الآبار المتسلسلة الموصولة بعضها ببعض، تبدأ باثنين أو ثلاث من مكان مرتفع، وينتهي ماؤها جاريا في ساقية على وجه الأرض. وكان العلاّمة ابن خلدون (ت 808 هـ/1406 م) ممّن أُعجبوا بالفقارة ونظامها.

جاء ذلك في معرض حديثه عن قبائل المنطقة ونشاطها قائلا: "وفي هذه البلاد الصحراوية غريبة في استنباط المياه الجارية، لا توجد في تلول المغرب، وذلك أن البئر تُحفر عميقة بعيدة المهوى، وتُطوى جوانبها إلى أن يوصل بالحفر إلى حجارة صلدة، فتُنحت بالمعاول والفؤوس إلى أن يرقّ جرمها، ثم يصعد الفعلة ويقذفون عليها زبرة من الحديد تكسر طبقها على الماء، فينبعث صاعدا فيعمّ البئر، ثم يجري على وجه الأرض واديا. ويزعمون أن الماء ربما أعجل بسرعته عن كل شيء. وهذه الغريبة العجيبة موجودة في قصور توات وتيكرارين وورقلة والريغ، والعالم أبو العجائب، والله الخلّاق العليم".

ويعتقد بعض الدارسين الفرنسيين لتطور الواحات الصحراوية، ومنهم مارتان (Martin)، أن تقنية السقي بالفقارة كانت شائعة في إيران وأفغانستان من قبل، وإنها أُدخلت إلى منطقة توات منذ القرن الـ 11م/5هـ بفضل توافد هجرات برمكية من أصول فارسية.

وفي موسوعة أطلس المستعمرات الفرنسية (Atlas des colonies françaises)  تعريف موجز للفقارة مؤدّاه أنها "مفرد feggaguir، وهي سلسلة من الآبار المحفورة على منحدر، تربطها قنوات تحت الأرض، تجلب المياه المتدفقة من الآبار العلوية أو من البئر الأم".

تتغذى مياه "الفقارات" أو "الفقاقير" من المخزون المائي الجوفي الضخم المتكوّن عبر قرون، وأيضا من مياه الأودية الثلاثة التي تتقاطع في واحات وسبخات توات.

والمرجّح أن ساكنة توات عرفوا هذا النظام منذ أمدٍ بعيد، لأنه مرتبط بعمارة الإقليم، وبتشكل الواحات وتجمعات القصور، وفقارة "هنو" القديمة بمنطقة تمنطيط العريقة خير دليل على ذلك.

نظام للسقي غاية في الدقة والتنظيم

تقوم قاعدة استخراج الماء في نظام عمل الفقارة على اختيار نقطة المنبع أو البئر الأم في أعلى المنحدر، من طرف الخبير (المعلّم أو المقاني)، ثم حفر وتهيئة قنوات تحت الأرض تسمى "النفاد"، تتخللها مجموعة من الآبار (أو الحسيان) للتنظيف والصيانة على أبعاد متقاربة بمعدلات تقارب الـ 8 أمتار.

وتُعرف هذه القنوات مع فتحاتها باسم "اغسرو"، بينما تحمل "الساقية" المياه المستخرجة إلى البساتين أو "الجنانات"، مرورا بحوض "القصرية" حيث تتحدد الأنصبة والمقاسات، وصولا إلى "الماجن" وهو مجمع المياه للري الزراعي المنظم.

والملاحظ أن معظم "الفقارات" في توات موجهة من الشرق إلى الغرب، حيث ترتبط الواحات متسلسلةً على خط واحد في شكل منخفض أو سبخة، وفي حالات نادرة يكون مسارها من الجنوب نحو الشمال.

ووحدة قياس الأنصبة من مياه الفقارة هي "الحبّة"، وهي حسابيا كمية الماء المتدفقة من خلال ثقب بحجم معين لمدة 24 ساعة، مع العلم أن أبعاد تلك الحفر تتراوح بين 9 و27 ملم.

وتوكل مهمة ضبط المقادير المعقدة في تفرعات "المشتة" إلى الخبير المعروف باسم "الكيّال". ويتم إنشاء سجل لكل فقارة لتحديد أسماء المستفيدين من مياهها ومقادير استفادتهم يسمى "الزمام".

ملاك "فقارة باعمور" يرممونها من مالهم الخاص

يقول السيد بابا عبد الرحيم، وهو أحد المتطوعين في فقارة قصر باعمور ببلدية فينوغيل، أنه من أجل ما يُعرف محليا بعملية "التنقية" أو إصلاح ما تهدم من آبار الفقارة، حرص ملاك الفقارة على اللجوء إلى "التويزة"، ذلك العمل الجماعي التلقائي الذي كان في عُرف أهل توات واجبا مقدسا لا مناص من أدائه، بل أضحى عندهم رمزا للمجتمع المنظم البديل للمجتمع القبلي المتشرذم.

وقد تم ترميم فقارة بور طالب محمد التي يبلغ طولها 4 كلم على مدار فترة قاربت الشهر من العمل، كما أُضيفت آبار جديدة لزيادة نسبة تدفق المياه بمبلغ 65 مليون سنتيم دفعها ملاك الفقارة من مالهم الخاص، ويبلغ عددهم 250 فلاحاً. كما أشار إلى أن عمليات الصيانة تتم من حين إلى آخر، منها عملية كانت في شهر مارس الماضي.

الفقارة قوام الحياة.. والوزارة خصصت 200 مليار للدعم

رغم أن منطقة توات قديما كانت تقع في مركز طرق الملح والتبر، وكانت ملتقى القوافل التجارية ونقطة عبور هامة بين الحواضر والأسواق الكبرى، على غرار تلمسان، سجلماسة، ورجلان، غدامس، ولاته وتينبكتو، غير أن ازدهارها ارتبط أساسا بكونها واحة كبيرة اشتهرت بثروتها الزراعية بفضل نظام هيدروليكي فريد هو "الفقارة"، لذلك تُعد إرثا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا يجب المحافظة عليه.

وكان وزير الري، طه دربال، قد أكد خلال زيارته لولاية تيميمون أنه تم تخصيص غلاف مالي قدره 200 مليون دينار لإعادة الاعتبار للفقارة في مدن الجنوب. ووفقا لإحصاءات سابقة للوكالة الوطنية للتسيير المدمج للموارد المائية (AGIRE)، فإن العديد من الفقارات لا تزال قيد الاستخدام حتى اليوم، حيث أنه من بين 2000 فقارة في واحات توات وقورارة وتيدكلت، لا تزال 672 وحدة منها وظيفية، وتستمر هذه "الفقارات الحية" في النشاط بمتوسط معدل تدفق يقدّر بـ 1,8 م³/ثانية.

مخاوف من زوال الفقارة والدعوة إلى تثمينها 

تزداد المخاوف بين السكان من أن تخف هذه المنابع وتختفي معها أساليب وطرق أُنشئت على مدى قرون من الزمن، من بينها على سبيل المثال "كيّال" الماء الذي يساهم مساهمة ملحوظة في ترشيد استغلال مياه الفقارة. ولحماية هذا الموروث وتثمينه كمورد مائي وثقافي، يطمح المعنيون إلى تصنيفه كتراث عالمي ووطني، وإقرار نص قانوني يعترف بوجوده ويحميه.

ولهذا قامت الجمعية الولائية للترميم والمحافظة على "الفقارة" بمراسلة السلطات المختصة من أجل إدراج هذا النظام في مقترح تعديل القانون 04/98 المتعلق بالتراث، وكذلك القانون 12/05 المتضمن قانون المياه.

وتعاني الفقارة اليوم من ضعف تدفق مياهها بسبب مخاطر تهدد وجودها، أهمها الحفر العشوائي للآبار الارتوازية بمحاذاتها، وعدم وجود قوانين لحمايتها.

فقد تم إحصاء نحو 330 فقارة نشطة فقط بولاية أدرار سنة 2023، فيما أصبحت حوالي 304 فقارات أخرى خارج الخدمة، وهو مؤشر على أن هذا الموروث الثقافي والاقتصادي بدأ يحتضر في صمت.

"كيّال الماء".. حرفة قديمة تواجه تأثير الزمن

وتُعدّ حرفة "كيّال الماء" (قياس كمية ماء الفقارات)، المدرجة ضمن قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) للتراث الثقافي اللامادي، من التقنيات القديمة والفريدة من نوعها في توزيع حصص مياه الفقارات الموجهة لسقي البساتين، غير أن هذه الحرفة اليوم تحتضر وتكاد تختفي تماما بسبب وفاة معظم الخبراء الممارسين لها، وقلة الشباب المهتمين بتعلّمها، إلى جانب تراجع الاعتماد على السقي بمياه الفقارات.

وخلال ملتقى علمي عقد قبل فترة في إطار شهر التراث بولاية أدرار، دعا باحثون وممثلو هيئات وجمعيات مهتمة بتسيير مياه الفقارة إلى ضرورة تثمين مهنة "كيّال الماء" كمهنة أساسية في إدارة واستغلال مياه نظام السقي التقليدي بالفقارة. 

وأكد المشاركون على أهمية إعداد نصوص تنظيمية تمنح "الكيّال" بطاقة حرفي ليحظى بالحقوق التي يكفلها القانون المتعلق بالحرفيين، إلى جانب الترويج للمهنة عبر إقامة لقاءات علمية وتأسيس نواد ثقافية تُعنى بتقنية كيل الماء تحت إشراف أصحاب المهنة، بهدف نقل المعارف والخبرات للأجيال القادمة والمهتمين بهذا المجال.

كما أبرز المتدخلون أهمية برمجة دورات تكوينية حول تقنية كيل الماء للحفاظ على هذا الموروث الثقافي، مع إعداد برامج لتكوين جيل جديد من "كيالي الماء"، وتحديد مختلف العلوم المرتبطة بالفقارة ونظام السقي التقليدي، إضافة إلى إقامة أحزمة خضراء لحماية نظام الفقارة من زحف الرمال.

من جانبه، وجّه "كيّال الماء" هداجي سليمان، الذي يُعد من بين القلائل الذين حافظوا على هذه الحرفة بعد أن تعلم قواعدها وأصولها من والده، رسالة إلى الشباب دعاهم فيها إلى التشبث بهذا الموروث اللامادي ولو من باب المعرفة، لأنه – كما قال – يعكس عبقرية الأجداد ومهاراتهم في إقامة نظام محكم ودقيق لتوزيع مياه الفقارة بالعدل وبوسائل تقليدية بسيطة.

كما أشار إلى أهمية توثيق هذه العمليات في وثيقة مدونة تسمى "الزمام"، تُتداول بين الكيّالين وملاك الفقارات ورؤساء الجمعيات، ويمكن اعتمادها كأرشيف يؤرخ لكل فقارة منذ نشأتها، ولمن تعاقبوا على استغلالها، وحتى للبساتين التي كانت تُسقى بمياهها.

وأشار الأستاذ مولاي عبد الله سماعيلي، في مداخلته حول الفقارة، إلى أنها تأخذ شكلا منحدرا باتجاه الواحات، وعند اقتراب المياه تمر بآبار قريبة من السطح تُدعى "أغسرو"، ومنها يتدفق الماء ليصل إلى "القصرية"، وعلى حافتها توجد "العيون". وهي الوحدات المستعملة لصرف المياه من القصرية باتجاه البساتين، بعد أن يحدد "الكيّال" نصيب كل عين بدقة متناهية.

ويُقاس الماء باستخدام "الحلافة"، ووحدة القياس هي "الحبة" التي تُجزّأ إلى 24 قيراطا. وبعد الانتهاء من التوزيع تُحفظ الحسابات في "الزمام"، وهو السجل الخاص بتقييد عمليات التوزيع والكيل.

كما شرح الباحث في تاريخ الفقارة، الأستاذ عبد الرحمن بن أحمد، كيفية احتساب توزيع مياه الفقارات، موضحا أنه بعد خروج المياه من الآبار وسيلانها فوق الأرض يشترك فيها معظم أهل القرية، حيث يُوزع الماء وفق الملكية من خلال "القصرية"، وهي موزع للحصص مصنوع من الحجارة.

وتتم عملية القياس بواسطة آلة تُسمى "الشقفة" أو "الحلافة"، تُصنع من النحاس على شكل مدوّر أو مستقيم، وتحتوي على ثقوب ونوافذ؛ تعتبر كل ثقبة كبيرة "حبة"، والصغيرة "قيراطا" أو أكثر، والحبة تساوي 24 قيراطا.