لم تعد مكافحة الفساد في الجزائر مجرد شعار يرفع في المناسبات ولا خطابا سياسيا ظرفيا موجها للتهدئة، بل تحوّلت إلى خيار استراتيجي تتبناه الدولة، باعتباره ركيزة أساسية لحماية المال العام وضمان الشفافية في تسيير الشأن العام. فمنذ توليه الحكم، جعل رئيس الجمهورية من ملف محاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة أحد أبرز تعهداته، مؤكدا في أكثر من مناسبة أن "الجزائر دولة شفافة وأنا أحرص على الشفافية أكثر من أي وقت مضى لأنه ليس لدينا ما نخفيه". وقال أيضا إن حماية المال العام واستعادة ثقة المواطن في مؤسساته تمثل أولوية قصوى في برنامجه الرئاسي. ولم تكن هذه التصريحات معزولة عن سياق سياسي واجتماعي عاشته البلاد عقب الحراك الشعبي، حين ارتفعت أصوات الملايين مطالبة بمحاسبة المسؤولين المتورطين في الفساد ووضع حدّ لنهب ثروات البلاد.
وقد تجسدت الإرادة السياسية في حزمة من الإصلاحات القانونية والتنظيمية، حيث أعيدت هيكلة المنظومة التشريعية المرتبطة بالشفافية والوقاية من الفساد، من ذلك استحداث السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته بموجب دستور 2020، أوكلت لها مهمة الرقابة على التصريح بالممتلكات، متابعة مسارات الصفقات العمومية وتقديم تقارير دورية حول مظاهر الخلل في التسيير.
في هذا السياق، أعلنت السلطات العمومية عن استراتيجية وطنية لتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، حدّدت أولوياتها في محاور رئيسية: الوقاية، الردع، التوعية والتعاون الدولي. وتشير تقارير رسمية إلى أن نسبة إنجاز هذه الاستراتيجية بلغت أكثر من 51 بالمائة مع نهاية سنة 2023، ما يعكس جدية المؤسسات في الانتقال من "الأقوال" إلى "الأفعال". ومن بين الإجراءات العملية التي رافقت هذا المسار، اعتماد الرقمنة في تسيير الصفقات العمومية للحد من التدخل البشري وتقليص هامش الرشوة والعمولات، إلى جانب تفعيل آليات المراقبة البعدية التي تمكّن من اكتشاف التجاوزات بعد التنفيذ وليس فقط في مرحلة التعاقد.
أما الجانب الأهم الذي أعطى لمكافحة الفساد بعدا شعبيا وصدقية أكبر فتمثّل في المتابعات القضائية الواسعة التي مست وزراء ومسؤولين سامين ورجال أعمال نافذين من عهد الرئيس السابق. ففي واحدة من أكبر القضايا التي شهدتها البلاد، أصدرت المحاكم أحكاما ثقيلة بالسجن ضد رؤساء حكومات، تراوحت بين 12 و15 سنة سجنا نافذا. كما أُدين رجال أعمال بارزون، على غرار علي حداد، بعقوبات مماثلة ومصادرة الممتلكات داخل الوطن وخارجه، مع الإشارة إلى أن تلك المحاكمات تم بث مجرياتها مباشرة على شاشات التلفزيون وشكلت لحظة فارقة في مسار العدالة الجزائرية وأظهرت أن مرحلة الإفلات من العقاب قد ولّت.
لقد دخلت الجزائر مرحلة جديدة في مسار مكافحة الفساد، تقوم على الجمع بين الإرادة السياسية الواضحة المعبر عنها في تصريحات رئيس الجمهورية، والإجراءات القضائية الملموسة التي طالت مسؤولين من الصف الأول، والإصلاحات المؤسسية التي تهدف إلى الوقاية قبل الردع. وهذا تحول يُعد مكسبا كبيرا، ليس فقط من زاوية حماية المال العام، بل أيضا من حيث إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن وترسيخ صورة الجزائر كدولة تسعى بجدية إلى طي صفحة الماضي وفتح آفاق جديدة للتنمية على أسس من النزاهة والشفافية.

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال