في عالمٍ اليوم أصبحت فيه الكاميرات تسبق المواقف، وتقاس فيه الفعالية الدبلوماسية بعدد الصور والمنشورات لا بعمق الالتزام والنتائج، تواصل الجزائر السير بثبات في خط مغاير تماما، متسلحة بالمواقف المبدئية لا بالبهرجة والتصريحات الاستعراضية.
بينما تكدست التصريحات المستهلكة فوق طاولات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كان صوت الجزائر، تحت راية السفير عمار بن جامع، يعلو دون ضجيج، منحازا بلا غموض ولا مواربة للحقوق العربية والإسلامية والإفريقية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
غير أن هذا الصوت، رغم صدقه وقوته، لا يلقى في كثير من الأحيان التغطية الإعلامية التي يستحقها، لا سيما من بعض القنوات والمنصات العربية ذات التأثير، والتي تميل إلى تضخيم أدوار منخرطة في التطبيع أو التحالفات الانتهازية، بينما تغض الطرف عن مواقف الجزائر الثابتة.
يحدث هذا في وقت تواجه فيه الدبلوماسية الجزائرية، وبشكل خاص في نيويورك، حملات تشويه مقصودة من أطراف معروفة، أبرزها المغرب وبعض حلفائه، في محاولة لتقزيم الحضور الجزائري وطمس دوره في صون الاستقرار والدفاع، بلا تمييز، عن قضايا الشعوب المقهورة.
وفي هذا الديكور المقزز، الذي تهيمن فيه الصورة على المضمون، والمظاهر على المبادئ، تبدو الدبلوماسية الجزائرية كأنها تسير عكس التيار، هادئة، رصينة، ومتمسكة بقيم لا تتغير مصدرها ثورة تحرير ليست كباقي الثورات، واستقلال مسقي بدماء أكثر من خمسة ملايين شهيد، حتى لو لم تصنع العناوين البراقة.
إنّ الجزائر، التي لطالما نأت بنفسها عن البهرجة والمواقف المعلبة التي تخدم أجندات خارجية، تواجَه اليوم بحملات ممنهجة من التعتيم والإجحاف، تستهدف تقزيم دورها الحقيقي في الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية والإفريقية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي تعتبرها الجزائر قضية مركزية لا تقبل المساومة، ولا يمكن فصلها عن استقرار المنطقة والعالم.
فتارة يحاول "أقزام" المنطقة الزج باسم الجزائر في أخبار عارية تماما من الصحة، على شاكلة ضباط جزائريين معتقلون في سوريا، وآخرين لقوا حتفهم في إيران، واتهام الجزائر بدعم رواندا ضد جارتها الكونغو الديمقراطية، وغيرها من الأكاذيب التي يسوق لها المغرب عبر أبواقه في أوروبا والمنطقة العربية بعدما يحصل على إذن بذلك من مخابر الصهيونية، بغية إضعاف الموقف الجزائري، والتأثير على أدوار دبلوماسيتها.
وتحت قيادة السفير عمار بن جامع، أحد أبرز وجوه الدبلوماسية الجزائرية المعاصرة، تتحرك البعثة الجزائرية في الأمم المتحدة بعقلانية وهدوء، لكنها بخطاب في غاية الدقة والوضوح في مواجهة الغطرسة، والتمييز، والسياسات الاستعمارية القديمة المتجددة. لا يبحث السفير بن جامع وفريقه عن الكاميرات، ولا يتسابقون إلى نشر الصور، بل يناضلون من أجل إيصال صوت الشعوب المقموعة، سواء في فلسطين أو في الصحراء الغربية أو في بقاع أخرى من إفريقيا والعالم الإسلامي.
لكن رغم هذا الجهد النوعي، قلما تحظى الجزائر بتغطية إعلامية عادلة، حتى من بعض الفضائيات العربية التي تدعي الانحياز لفلسطين ولقضايا الأمة. ففي الوقت الذي يُخصص فيه حيز كبير لتلميع أدوار إقليمية مشبوهة، ترتكز على الصفقات السرية والتطبيع المتدرج مع الاحتلال الإسرائيلي، تغيب الجزائر عن الصورة، أو تعرض بصور مجتزأة، ومغرضة أحيانا.
ما هو السبب؟ الجواب: السبب بسيط ومعقد في آن واحد وهو أن الجزائر لا تقايض مبادئها بالرضا الدولي، ولا تبيع مواقفها في المزاد السياسي. فهي ترفض الانضمام إلى محاور إقليمية ودولية تخدم أجندات استعمارية جديدة، وتتخذ مواقف سيادية حقيقية، لا تملى من الخارج ولا تُرهن لمصالح آنية.
في المقابل، نلحظ محاولات مغربية مستمرة لتشويه صورة الجزائر وعرقلة مساعيها من أجل السلام والاستقرار، خصوصا في الساحل والصحراء وليبيا، من خلال الترويج لدعاية إعلامية تستهدف تضليل الرأي العام الدولي والعربي، وتقدّم المغرب كـ"فاعل إيجابي" في حين أنه يمد يده من تحت الطاولة لحلفاء الاحتلال ويشارك في خنق الشعوب المستضعفة.
إنّ الإعلام العربي الثقيل، من فضائيات ومنصات رقمية مؤثرة، مطالب اليوم أكثر من أي وقت مضى بمراجعة معاييره التحريرية، والانحياز لمضمون المواقف لا لسطحية الصور. فلا يعقل أن تغفل المبادرات الجزائرية الصلبة في مجلس الأمن، سواء في ملفات فلسطين أو السودان أو الساحل الإفريقي أو سوريا أو اليمن أو الصومال، بينما تمنح المساحات لمن يسوقون مشاريع التعايش الزائف مع الاحتلال، ويبحثون عن شرعية من بوابة التطبيع، بل ويبيعون كل شيء -حتى الشرف- من أجل نيل حق لا يملكه لا هو ولا غيره.

التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال