يقول الدكتور عاشور فني عن فرانز فانون انه "ولد مارتينيكيا واقتنع أنه فرنسي، لكن توفي وهو ثائر جزائري، ممثلا لحكومة الثورة، الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية، في غانا، مركز نشاط إفريقيا الساعية للتحرر"، ثم يتساءل: كيف حدث هذا التحول؟ وماذا بقي من فكر فرانز فانون الثوري؟
ويشرح فني، في تصريح لـ "الخبر"، مراحل هذا التحول ومستوياته؛ فيوضح أن في المستوى الأول كان اكتشافه الشخصي البسيط، فرغم اندماجه التام في ثقافة المستعمر لم يكن فرنسيا، كانت صدمته كبيرة، لكنه خاض الحرب العالمية الثانية مقاتلا في الجبهة الفرنسية لتحرير فرنسا من الاحتلال النازي، حيث اكتشف مرة أخرى زيف الشعار البراق (حرية، مساواة، أخوة) الذي جاء به للدفاع عن حرية الفرنسي الأبيض الذي مازال يستعمر بلده، بل استلب شعبه وأقنعه أنه فرنسي. طبعت معايناته هذه تفكيره الجذري إزاء الظاهرة الاستعمارية. كانت حياته الشخصية مصدرا لأفكاره الجذرية التي حررته من أوهام الاستلاب الثقافي.
أما في المستوى الثاني، يقول عاشور فني، ربط فانون بين الوضع الكولونيالي والظواهر النفسية وحتى الجسدية والجنسية التي تتجلى في حالات المستعمَر الذي أخضعه النظام الاستعماري للعنف النفسي والثقافي، حتى جرّده من ذاته ومن كيانه ومن إنسانيته. كان ذلك سبيله لفهم حالة مرضاه من الفئات المهمشة، وخاصة من مواطني المستعمرات، وعلى الأخص العمال الجزائريين المهاجرين.
في كتابه (بشرة سوداء وأقنعة بيضاء)، قام بتحليل الظاهرة الاستعمارية من باب اختصاصه واتخذ مواقف جذرية على المستوى الثقافي، جعلته يحتل مكانة متميزة تجاوز بها مواقف الأوساط اليسارية الفرنسية التقليدية وبرز اسمه على الجبهة الثقافية العالمية.
يرى فني أن فانون كان يعالج ضحايا العنف الاستعماري، لكنه يعالج أيضا ممارسي العنف الذين فقدوا إنسانيتهم وتحولوا إلى وحوش. قاده ذلك إلى إدانة النظام الاستعماري علنا في رسالة شهيرة تسببت في طرده من الجزائر سنة 1956. هذه الأوضاع مازالت ماثلة في نقاط عديدة من العالم يمارس فيها المهيمن وحشيته بساديّة مدمّرة، مدعيا أنه يحارب وحشية الطرف الضعيف.
يحدث ذلك في فلسطين وفي البلدان الغربية، وهي تحاصر المهاجرين أبناء المستعمرات السابقين في "الضواحي" وتصدر قوانين الهجرة لتحد من تدفق الوافدين من المستعمرات السابقة. ما زالت بقايا الإمبراطوريات تتشبث بسياسات النظام الكولونيالي؛ من خلال سياساتها إزاء مستعمراتها السابقة.
ويؤكد فني أن أفكار فرانز فانون ما تزال ذات قيمة راهنة في الأوساط المناهضة للاستعمار الجديد في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وفي الجامعات، وفي الأوساط البحثية عبر العالم من خلال نظريات التابع، والجندر، وما بعد الكولونيالية، وما تفرع عنها من رؤى وأطروحات جديدة.
في المستوى الثالث، يتجلى الالتزام الفكري والسياسي لفرانز فانون لصيقا بمساره الشخصي؛ فقد سمح له تحليله لسوسيولوجيا الثورة الجزائرية في كتابه (السنة الخامسة للثورة الجزائريةL’an V de la révolution ) إلى إدراك التحولات التي أحدثتها الثورة في سلوك الثوار وتحريرهم من الوضع الذي فرضه عليهم النظام الاستعماري كـ(أهاليIndigènes )، وفي الوقت نفسه، إدراك المهام الجديدة التي يتعين على الثائرين إنجازها لتحقيق حلم الحرية.
وفي كتاب (المعذبين في الأرض Les Damnés de la terre) الذي قدم له الفيلسوف جان بول سارتر وصدر أياما قبل وفاة فانون سنة 1961، وضع عصارة فكره وتجربته في مواجهة النظام الكولونيالي وضمنه أيضا شكوكه بشأن الدول التي بدأت تنشأ عن حركة تصفية الاستعمار في إفريقيا ومواجهة العنف الاستعماري بعنف مضاد.
وفي الختام، يمكننا الحديث عن نوع من الإهمال الذي تعرض له فكر فرانز فانون في فرنسا وهو أمر مفهوم بسبب موقفه المناهض للاستعمار الفرنسي في الجزائر. أما في الجزائر؛ فقد كانت أفكاره شائعة في الأوساط الثقافية والسياسية خلال الستينيات والسبعينيات، ثم تراجعت بشكل غريب رغم أنها كانت نتيجة تحليله لمسار الثورة الجزائرية وأثرها على البلدان الإفريقية.
ويمكن إرجاع ذلك إلى عودة نزعة الدروشة الفكرية والسياسية التي تنبأ بها. وفي العقدين الأخيرين، عادت أفكار فانون على بعض الأوساط الأكاديمية من خلال أعمال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد مترجمة عن الإنجليزية إلى العربية، رغم أن الأعمال الأصلية موجودة باللغة الفرنسية في الجزائر وأعيد طبعها عدة مرات. إنها مسألة ثقافية في غاية الأهمية، تبين أن العودة إلى فرانز فانون ضرورية لفهم كثير من ظواهر السياسية في هذا العصر.
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال