قال ابن الجوزي رحمه الله: تفكرت في سبب هداية من يهتدي، وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته، فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق عز وجل لذلك الشخص، كما قيل: ”إذا أرادك لأمر هيأك له”، فتارة تقع اليقظة بمجرد فكر يوجبه نظر العقل، فيتلمح الإنسان وجود نفسه، فيعلم أن لها صانعا، وقد طالبه بحقه وشكر نعمته، وخوفه عقاب مخالفته، ولا يكون ذلك بسبب ظاهر. ومن هذا ما جرى لأهل الكهف: {إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض}، وفي التفسير: أن كل واحد منهم ألقى في قلبه يقظة، فقال: لا بد لهذا الخلق من خالق، فاشتد كرب بواطنهم من وقود نار الحذر، فخرجوا إلى الصحراء فاجتمعوا عن غير موعد، فكل واحد يسأل الآخر: ما الذي أخرجك؟ فتصادقوا.
ومن الناس من يجعل الخالق سبحانه وتعالى لذلك السبب الذي هو الفكر والنظر سببا ظاهرا، إما من موعظة يسمعها أو يراها، فيحرك هذا السبب الظاهر فكرة القلب الباطنة، ثم ينقسم المتيقظون، فمنهم من يغلبه هواه، ويقتضيه طبعه ما يشتهي مما قد اعتاده، فيعود القهقرى ولا ينفعه ما حصل له من الانتباه، فانتباه مثل هذا زيادة في الحجة عليه. ومنهم من هو واقف في مقام المجاهدة بين صفين: العقل الآمر بالتقوى، والهوى المتقاضي بالشهوات، فمنهم من يُغلَب بعد المجاهدات الطويلة فيعود إلى الشر ويُختم له به، ومنهم من يَغلِب تارة ويُغلَب أخرى، فجراحاته لا في مقتل، ومنهم من يَقهَر عدوه فيسجنه في حبس، فلا يبقى للعدو من الحيلة إلا الوساوس.
ومن الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا، فهمهم صعود وترق، كلما عبروا مقاما إلى مقام رأوا نقص ما كانوا فيه فاستغفروا، ومنهم مَن يرقى عن الاحتياج إلى مجاهدة، إما لخسة ما يدعو إليه الطبع عنده ولا وقع له، وإما لشرف مطلوبه فلا يلتفت إلى عائق عنه. واعلم أن الطريق الموصلة إلى الحق سبحانه ليست مما يقطع بالأقدام، وإنما يقطع بالقلوب، والشهوات العاجلة كقُطّاع الطرق، وكالليل المدلهم، غير أن عين الموفق بصرُ فَرَس؛ لأنه يرى في الظلمة كما يرى في الضوء، والصدق في الطلب منار أينما وجد يدل على الجادة، وإنما يتعثر مَن لم يخلص، وإنما يمتنع الإخلاص ممن لا يراد، فلا حول ولا قوة إلا بالله.*
* إمام مسجد عمر بن الخطاب -
بن غازي - براقي
الخبر
14/09/2025 - 22:51
الخبر
14/09/2025 - 22:51
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال