لقد كان أهم معيار لتصنيف الناس وتقييمهم في ما مضى هو الصلاح، فكن من شئت، وكن ابن من شئت، واملك ما شئت، وابلغ ما شئت، ونِل ما شئت من الأملاك والأموال والمناصب والجاه والشهرة، فلن تكون لك قيمة عند الناس ما لم تكن صالحا!.
هكذا كان الحال حينما كانت قيمنا سليمة، ومجتمعاتنا أقرب إلى الفطرة، وعلاقاتنا تتحاكم إلى التراحم، وتربيتنا ترتكز على مقومات هويتنا وأحكام ديننا. ولكن مع رياح الأمركة العاتية وأمواج العولمة الطاغية وروح المادية القاسية، تهلهل الكثير من قيمنا، وترهل الكثير من تربيتنا، وفقدنا الكثير من تميزنا، وضيعنا الكثير من خصائصنا، وتغير الكثير من سلوكنا، وانحرف الكثير من موازيننا. وأخطر ما تغير فينا: نظرتنا للإنسان عامة، ولنجاح الإنسان خاصة.
وقبل أن يعترض علي معترض فيقول: إنه لا تعارض بين الصلاح والنجاح، فكيف جعلتهما متقابلين؟، أبادر لأقول: إن القسمة العقلية بالنسبة لهذين الوصفين تعطينا أربعة أصناف: إنسان صالح ناجح، إنسان غير صالح ولا ناجح، إنسان صالح غير ناجح، إنسان غير صالح ناجح. ولكن الإشكال ليس هنا، فإذا كانت المعالم العامة للصلاح واضحة نوعا ما، فتحديد النجاح ليس كذلك، فالإشكال الحقيقي هو في تحديد من هو الناجح؟، وماذا يعني النجاح؟، وما هي صفات الناجحين؟. وهنا نسأل من منظار الإسلام: هل يكون ناجحا من لا يكون صالحا؟.
والحق أن الذي زاد هذه النقطة غموضا وأثار حولها غبش الفهم والتصور هو غلبة النموذج الأمريكي للنجاح، والذي يعمل كثيرون على نشره بيننا تحت عناوين إسلامية، أو بتعليبه إسلاميا، بوعي أو بغير وعي، خاصة من كثير من السذج المبهورين والمشتغلين بما يسمى برامج (التنمية البشرية)، والذين هم في أغلبهم من ذوي المستوى المحدود الذين لا يمكنهم تمييز القيم البروتستانتية والقيم المادية المستبطنة في النموذج التي تقدمه مثل هذه البرامج والأفكار مما يتعارض كلية مع قيم الإسلام والإيمان والقرآن، ولكن جاذبيتها وجدتها لا تترك لهم مجالا للتفكير والنقد، فصارت هذه الأفكار حول النجاح تُلبس لبوسا إسلاميا ويُبحث لها عن (تبريرات) ومسوغات في نصوص قرآنية أو حديثية أو أخبار من السيرة والتاريخ الإسلامي؛ لتقدم كمنتج إسلامي خالص!، وهيهات هيهات!. وشهد شاهد من أهلها بذلك حيث يقول الأستاذ باتريك هيني السويسري، وهو يتحدث عن التحولات التي أصابت الفكر الإسلامي: ”أما الآن فقد بدأ تفاعل جديد بين الديني والاقتصادي، ولا يوفر الاقتصادي لأنماط التدين الجديدة روافعها المادية الملموسة كالسوق فحسب، بل يمدها أيضا بنماذج التفكير من خلال إعادة صياغة الإسلام نفسه وفق مفردات جديدة كــ((تحقيق الذات))، ويضيف إليها عناصر من الأخلاقية البروتستانتية، من هذه التفاعلات سينتج لدينا ما نسميه ((لاهوت النجاح)) الذي يبشر بالمسلم الجديد، الذي لم يعد يقدم نفسه كورع [يعني صالح] أو بالمواجهة المسلحة، بل عبر الأداء والمنافسة”. [إسلام السوق، ص39]، ولكن أغلب المنغمسين في هذا التيار لا يملكون المؤهلات التي تسمح لهم ببلوغ هذا العمق حتى يفهموا هذا الفهم!.
بيد أن العجب العجاب أن يخفى على مسلم حقيقة هذا الموضوع: هل يكون ناجحا من لا يكون صالحا؟. وصغار المسلمين قبل كبارهم يحفظون سورة هي من أقصر سور القرآن العظيم تتحدث عن هذا الموضوع العظيم، وهي قول الله عز وجل: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}، يقول سيد قطب رحمه الله: ”في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام، وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة.. والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه :إنه على امتداد الزّمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد [ناجح]. هو ذلك المنهج الّذي ترسم السورة حدوده، وهو هذا الطّريق الّذي تصف السّورة معالمه. وكلّ ما وراء ذلك ضياع وخسار”.
فهل هناك معيار أوضح من معيار هذه السّورة الكريمة؟، لا أبدا، وعليه: فالملياردير صاحب الشركات إذا حقق ذلك بالرشاوي والمحسوبيات فهو خاسر الخسران المبين، وإن كان من أكبر المحسودين عند عامة الناس!. والمسؤول الذي وصل إلى منصبه ونفوذه بالتزوير والخداع هو من أخسر الخاسرين، وإن كان من أكبر المرهوبين عند عامة الناس!. والفنان أو الفنانة الّذي حقّق شهرته أو حققت شهرتها بالتعري والفحش ومعصية الله هو أو هي من أخسر الخاسرين، وإن كان أو كانت من أكثر الناس معجبات ومعجبين!... وهكذا زِن وقِس ما لم يذكر من بهارج الدنيا الفانية التي يحسبها عامة الناس نجاحا وإن نيلت بأكوام من المعاصي النتنة!، وإن كان أصحابها يغدون ويروحون في سخط الله عزّ وجلّ.
وقد ضرب الله لنا مثلا عظيما في كتابه الكريم يناسب زمن الرأسمالية المتوحشة الذي نعيشه، فقال الحق تبارك وتعالى: {.. فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظّ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}.
الخبر
05/11/2025 - 23:24
الخبر
05/11/2025 - 23:24
التعليقات
شارك تسجيل الدخول
الخروج
التعليقات مغلقة لهذا المقال